عبد الله حمدوك… هل كان يتحدث في وضح النهار أم في عتمة ليلٍ؟

مهند عوض محمود
في مشهدٍ لا يخلو من العجب، خرج عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي السابق، بتصريحاتٍ أقلّ ما تُوصف به أنها استخفافٌ فجٌّ بالسودان، وتهكُّمٌ غير مسؤول على موقف رسمي صادر عن وزارة الخارجية السودانية، قالت فيه إن السودان سيبني علاقاته مع الدول وفقاً لموقفها من مليشيا الدعم السريع والقوى السياسية المتحالفة معهم، وذلك في وقتٍ يمر فيه الوطن بأدقّ مراحل تاريخه السيادي.
لم يكتفِ الرجل بالتقليل من شأن البيان، بل توسّع في هذيانه ليسخر من علاقة السودان بجنوب أفريقيا، قائلًا: “ناس بورتسودان ديل مهددين جنوب إفريقيا؟!”، وكأنّه يتحدث عن نادٍ محلي لا عن دولة ذات سيادة وتاريخ.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أكان ذلك التصريح نهارًا يُبنى عليه موقف، أم ليلًا من ليالي السُكر السياسي التي اعتادها؟ وهل كان حمدوك في تمام وعيه حين تفوّه بهذا الكلام؟ أم أنّ الأمر كما قال الشاعر:
إذا نطقَ السُّكرانُ في الليلِ مُفترِيًا
فصُبحُ العقلِ يمحو ما ادّعى بالأمسِ
لقد فضح هذا التصريح هشاشة الارتباط بين الرجل ووطنه. فمنذ أن غادر السودان في أوائل التسعينات، انقطعت صلته به فكريًا ومجتمعيًا وحتى وجدانيًا، حتى أنّ بيته الذي أعلن أنه سيقضي فيه تقاعده قد اشتراه في بريتوريا، لا في الخرطوم، رغم توفر الإمكانيات المالية لديه من مناصب وعلاقات ومنح ومنظمات. لم يشترِ أرضًا، ولم يبنِ بيتًا، ولم يربط نفسه بأي جذورٍ على هذه الأرض التي يريد أن يتكلم باسمها اليوم.
والأدهى، أن حمدوك – الذي كان يتلقى توجيهاته من السفارات والمنظمات – لم يكن يومًا صاحب قرار سيادي. حكم السودان وهو يضع تقاريره على مكاتب السفراء، لا على طاولات الوطن، ورفع شعار الثورة وهو لا يثق إلا في التقارير الأجنبية الصادرة عن منظمات تتجاهل نبض الداخل وتروّج لأجندات الخارج. بل إنه في أكثر من موضع دعا المجتمع الدولي للتدخل المباشر في شؤون السودان، مما أكّد أنه لم يفهم يومًا معنى السيادة الوطنية ولا كرامة القرار المستقل.
والحديث عن علاقات السودان بجنوب أفريقيا وسواها من دول القارة لا يجوز أن يُترك لحمدوك وأمثاله ممن يجهلون – أو يتجاهلون – التاريخ. فالسودان، قبل أن يعرف حمدوك طريق المنظمة الدولية للتنمية، كان حضنًا لحركات التحرر الأفريقي، وقدّم الدعم السياسي واللوجستي للمقاومة ضد نظام الفصل العنصري، واستضاف رموز النضال الأفريقي، وكان من أوائل الداعمين لنيلسون مانديلا.
أما على صعيد المؤسسات، فالسودان لم يكن مجرد مشارك في أفريقيا، بل كان مؤسسًا وقائدًا. ففي العام 2004، أنشأ جهاز السيسا (CISSA)، أي لجنة أجهزة الأمن والمخابرات الأفريقية، ومقرها الخرطوم، والتي جمعت أكثر من خمسين جهازًا استخباراتيًا من دول القارة، لتنسيق جهود الأمن ومكافحة الإرهاب.
وفي 2012، بادر السودان إلى تأسيس مجلس الأحزاب السياسية الأفريقية، بعضوية 42 حزبًا من 37 دولة، معظمها أحزاب حاكمة، وكانت تلبّي دعوته لحضور المؤتمرات في الخرطوم، ما يعكس حجم الثقة والمكانة التي كان يحظى بها السودان في القارة.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل أسّس السودان الاتحاد العام للشباب العربي الأفريقي، ومقره كذلك في الخرطوم، ليكون منبرًا جامعًا لشباب القارتين في قضايا التنمية والوحدة والتكامل. كما تحتضن الخرطوم جامعة أفريقيا العالمية، التي تخرّج منها الآلاف من القادة، والدبلوماسيين، والدعاة، من أكثر من أربعين دولة أفريقية، وكان لها دور محوري في صناعة النخب الفكرية والسياسية في القارة.
ويُحسب للدبلوماسية السودانية كذلك أنها نجحت – بحسب عدد من التقارير – في إقناع ست عشرة دولة أفريقية بالانسحاب من ميثاق محكمة الجنايات الدولية، رفضًا لتسييس العدالة الدولية واستهدافها الانتقائي لقادة القارة، وهو موقف سيادي لم يُكتب لحكومة حمدوك أن تُكمله، بل بالعكس، كانت أقرب إلى الانبطاح منه إلى التحدي.
وهكذا، فإنّ من يسخر من السودان، تجهل أقدامه أرضه، ويستهين بمؤسساته، ويصغر بعينيه دوره الإقليمي، لا يستحق أن يُنصت إليه. لأنه لم يأتِ من رحم الوطن، بل من دهاليز الأجندات.
لا عجب أن يخرج حمدوك في لحظة سُكر سياسي ليتنكر لتاريخ السودان ومكانته، فقد قالها يومًا المتنبئ:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ
يَجدْ مرًّا به الماءَ الزُّلالا
أما السودان، فسيعود كما كان، رائدًا في قارته، قائدًا بين دوله، لا تهمّه أقوال رجلٍ لم يحمل منه إلا جوازًا قديمًا طواه النسيان، واستبدله بجواز أجنبي يُعبّر عن ولائه الحقيقي، ولا بيتًا يأوي إليه فيه، ولا ذاكرة وطنية تحفظ له يومًا مشرّفًا.
إنّ من لا يملك قطعة أرض في وطنه، ولا يحمل جوازه، ولا يفتخر بتاريخه، لا يستحق أن ينطق باسمه، ناهيك أن يسخر من مقامه.
السودان أكبر من حمدوك، وأرسخ من تقلباته، وأصدق في حضوره من كل المواقف المتلونة التي أدارها بأصابع السفارات.
والاستخفاف بالسودان… جنحة لا تُغتفر.