قراءات ذات بهجة: مقدمتي لكتاب عادل الباز “تجديف على شواطئ مزهرة”

السر السيد
تساءلت وأنا أطالع مخطوطة كتاب الأستاذ عادل الباز الموسومة ب (تجديف على شواطئ مزهرة)، والتى حوت عدداً من مقالات سبق نشرها فى الصحف السودانية، تساءلت لماذا انتخب الباز هذه المقالات دون غيرها لينشرها فى كتاب؟
من المنطقى جداً أن نقول إن الإجابة الدقيقة لهذا التساؤل يملكها من انتخبها، إلا أن القراءة أيضاً تمتلك إجابتها أو إجاباتها..القراءة بما هى فعل آخر له وضعيته الخاصة التى تتحدد أولاً بموقع القارئ/القارئة أياً كان هذا القارئ وهذه القارئة، وثانياً بالنظام التى توجد داخله المقالات وهو هنا نظام الكتاب بما أنه نظام اشتمل على هذه المقالات وأسس لها وحدة لم توفرها لها الصحيفة، حيث إنها بالضرورة نشرت فى شكل متفرقات وفقاً لمنطق الصحيفة الذى نعرفه كقراء، وثالثاً ما أسميه بالسياق الذى تؤسسه المقالات مجتمعة والذى هو بالضرورة محكوم بالطريقة التى رتبت بها المقالات وبالتاريخ الذى قرئت فيه، والذى هو الآن، أي اللحظة الراهنة بكل ما يكتنفها من محددات محلية وأقليمية ودولية بتجلياتها على مستويات الثقافة والسياسة والاجتماع أي الفضاءات التي تنضح بها المقالات مجتمعة.
فالمقالات وهى تبحر في عوالم الشعر وفضاء الروايات والمذكرات وحيوات شخصيات سكنت قلب المؤلف وذاكرته ومنحته أجنحة يطير بها فى سماوات المحبة والوفاء والامتنان والأسى، تمضى – أعني المقالات – وعلى طريقة السهل الممتنع فى استجلاء سجل عالمنا الذى نعيش خاصة في محيطنا العربي والأفريقي، ففي المقالات حضور لثيمات الموت والقهر والفقر والهويات المتقاتلة والحروب وخيانة المثقفين والنخب، وبالمقابل هناك حضور لأناشيد المحبة وهناك حضور لثيمات المقاومة والأمل والعدالة والجمال والتحرر..
نلمس كل هذا في جميع المقالات بلا استثناء وكأنما هناك خيط رفيع يجمع بينها ليضعها وكأنها مرآة للحظة الراهنة التي نعيش، فإذا كنا نعيش فى عالم تميز بإذابة الحدود فإن المقالات وبخيطها الرفيع هذا تعمل على كشف الحدود بما يفيد الالتقاء أو التشابه هنا وهناك، فيا ترى هل ثمة صلة ما بين مهارب المبدعين ومذكرات منصور خالد وموسم الهجرة إلى الشمال وعبد الله حمدنا الله؟ وهل ثمة صلة ما بين رواية الطلياني ورواية ساق المامبو ورواية توترات القبطى؟ وهل ثمة صلة ما بين سميح القاسم وسعد الدين إبراهيم وفضل الله محمد ومحمد وردي ومحمود عبد العزيز؟
بالطبع هناك صلة ما، بل صلات ما، يكشفها الباز بنسجه “كتابة” من روح تلكم العوالم التى يضج بها الشعر والغناء وتضج بها الروايات والمذكرات وتضج بها حكايات الاصدقاء.. تضج بها مخطوطة (كتاب) (تجديف على شواطئ مزهرة)، أو ضج بها الوطن كما رآه ويراه الباز، فقد جاء في صفحة 248: ( فإن وطناً بلا غناء ولا أنس ولا حكايات لا يستحق العيش فيه).
هذا الكتاب والذى يغطي مسيرة ربع قرن، هو تاريخ كتابة المقالات، تبدت فيه وبشكل واضح مهارات الصحفي ومهارات السارد وهما مهارتان تتوفران حد الاتقان عند الباز، ففي مهارات “الصحفى” تبدت تلكم القدرة على الاختزال دونما إخلال بالمحتوى، كما فى كتابته عن “مذكرات منصور خالد” على سبيل المثال، وفى مهارات “السارد” تبدت فى تلكم القدرة على الحكي كما فى غالبية المقالات خاصة كتابته عن “الدكتور عبد الله حمدنا الله” على سبيل المثال.
ثمة نقطتان أود التوقف عندهما في خواتيم هذه المقالة المختصرة، والتي جاءت على سبيل التقديم..
النقطة الأولى وتتعلق بعنوان، المخطوطة/الكتاب وفيها أقول: إن العنوان بمفرداته الأساسية (تجديف،شواطئ،
مزهرة) يوحي بما يشبه الرحلة البحرية او النهرية وما يترتب عليها من حيازة للنزهة والمعرفة وتمتع بالجمال ومع حضور الماء بقرينة التجديف، والاخضرار بقرينة مزهرة نكون أمام الحياة في سطوعها البليغ ولما كان من طبيعة أي رحلة أنها لا تخلو من مخاطر، نكون مع عنوان من ضمن دلالاته مديح الحياة برغم مخاطرها وعنتها، حيث لا يخلو تجديف من مخاطر ولا تخلو رحلة من مخاطر والله أعلم، فالكتاب فى عمقه البعيد ما هو إلا احتفال بالحياة ومقاومة للموت والتشبث بالأمل والأحلام العريضة.
النقطة الثانية وهى على صلة بما أصفه أنا بأطياف التسامح التحرري التى تحوم فوق كل سطر وكل فقرة في الكتاب، ولأن الكتاب يجئ وثقافة الكراهية تتسيد المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، ونشهد يومياً القتل على الهوية والتغول على حرية التعبير، أحسست به – أي الكتاب – وربما آخرون كذلك، وكأنه نفحة باردة في سموم حياتنا الموبوءة بالعنف والكراهية..المحاصرة بالحرب الآن، ففي الكتاب والذي مؤلفه محسوب على الإسلاميين، احتفاء عظيم بمن يمكن وضعهم فى حالة الخصوم أو المختلفين سياسياً كالاستاذ عبد الخالق محجوب، بل فى الكتاب تحسر على إعدام الاستاذ محمود محمد طه، ولأن النماذج هنا كثيرة أختصر وأقول إن هذا الكتاب من بعض ما قد يسربه للقارئ، هو تلك الروح العظيمة المشحونة بالتسامح.
هذا كتاب ممتع وجميل لأنه وقبل كل شئ أكد على ألا ابتهاج يضاهي الابتهاج بالقراءة.