قراءة في سيمفونية الجنوب ل”طاهر النور”

عبد القادر دقاش
يقول الروائي المصري، صنع الله إبراهيم: (المؤرخ الجيد هو الروائي).
كما في رواية (سمروايت) للكاتب الإريتري حجي جابر، نجد في رواية طاهر النور، مقاساة للألم والحنين. وإن جاز لنا وصف رواية سمراويت بأنها عبارة عن سيرة ذاتية، أفصح فيها حجي عن نفسه من خلال شخصية (عمر) فأخل ذلك بالحكي السردي القصصي والروائي، وجعلها أشبه بالقص التاريخي المدرسي، وخلت أحداثها من التشويق.. يجوز لنا (كذلك) أن نصف رواية (سيمفوينة الجنوب) بأنها (رواية ذاتية) لكنها تفرض وجود مسافة فاصلة بين المؤلف وأبطال الرواية، إضافة إلى حكائيتها وتراثيتها وملحميتها المشحونة بالحكم التربوية، ونظمها المتكامل والمتماسك في الحكي والسرد.
سيمفونية الجنوب، متشحة بالحكايات الحزينة. أن تكون لك جهة تنتمي إليها أمر حتمي، حتمته طبيعة كروية الأرض وعالمها (المسطح) لا بد أن يكون هناك شمال وجنوب غرب وشرق فوق وتحت..جهات متضامنة – مشدودة كلها إلى مركز الأرض، مركز الكون، مركز الحياة – لا متضادة. لكن البشر متضادون ليس بطبعهم فحسب ولكن بحكم التدافع الذي هو قدرهم المقدور.
الجهات التي تساويها قوانين الجغرافية، لا تتساوى في منطق التاريخ ولا في أعراف الناس، لأن الجهة تصبح صورتك وقيمتك، تمنح الرواية هذه الأوصاف: “…فيها كل سمات فتاة الجنوب الأصلية: الغرابة والصلابة والصحة والطرب والنغمة الساحرة” ص(40). وكذلك تضع حدوداً فاصلة: “هذا ولد شمالي حقيقي ..الناس في الشمال هناك نحاف جداً وضعاف البنية..لكنهم طوال” (41).
تطرقت الرواية للدين بمفهومه الأشمل.. الدين عند الله الإسلام.. المفهوم الكوني للإسلام من لدن أول المسلمين إلى خاتم المرسلين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين..لكن معتقدات الناس كثيرة حتى داخل الدين الواحد. وكل إنسان يرى أن زاويته التي يرى الدين من خلالها هي الحق وما عداها باطل وخسران. تتعدد الطرق لكن الوجهة واحدة. إشارة (طاهر النور) عميقة وهو يروي على لسان مريام:
“- هل سيصلي أخي يعقوب معنا، أم يذهب إلى الكنيسة مع ماما مانديلاد عندما يكبر؟
سألت أبي ذات يوم عندما أكلني الفضول.
نظر أبي إلى بعيون حنونة:
– سيجد طريقه بنفسه”.
حتى اللغة بوصفها أداة لايصال المعنى تصبح هي الأخرى صفة مميزة لإنسان أرقى وإنسان أدنى، لا بوصفها حالة ثقافية تخضع للبيئة وتتجاور مع لغات أخرى يتحدثها قوم آخرون.. (هامد) في الجنوب، و(حامد) في الشمال.
ما يجمع شخصيات (طاهر النور) هي الحكايات “سِيّر الشجن” فشخصياته، أسرى الحزن والقهر والانكسار، ” في الشمال ليست أرضنا وحدها هي القاحلة، بل نحن أيضا قاحلون من الداخل. ألمنا حقيقي، لكننا كاذبون بشأن التعبير عنه”.
يستوقفنا في النص كله إشارات الكاتب للمرأة: “الرجال هنا في الجنوب وحتى في الشمال يخجلون من انجاب الإناث، إذ ليس من الفخر أن ينجب المرء الإناث فقط. الأنوثة ضعف والذكورة قوة. هذا ما يعتقده الرجال” ص (138). هناك عداء تجاه المرأة ضارب بجذوره عميقاً في التاريخ وفي اللاوعي عند الرجال. والكاتب واع تماماُ لهذا العداء فهو كثير ومبذول في المجتمعات الأفريقية. ويمكن تأول اختيار (طاهر) لأبطاله صاحبات الحكايات (مريام، كيومو، شينزون وديبانتي) وكذلك مانديلاد وحتى فانسيا أخت لاك تانكيه (صاحب الاتان)، بأنه نصير للمرأة ومدافع عن حقوقها في مجتمع لا يأبه بالحقوق.
الحكايات تفرض نفسها بالتداعي، ذات الحزن، (حامد وموسى ولاك تانكيه) يقول لاك تانكيه: “طوى الزمن كل من أعرفهم، وبقيت وحيدا. أخذت كلمة صاحب الأتان الختامية تدق في رأسي مثل المسمار وتقيد نفسي الداجنة بسلاسلها. تدفق تيار خفيف من الأنين في روحي تتحرك فيها مثل التنفس. رحت أذرف الدموع، وأنظر إلى رؤوس الأشجار التي ارتفعت في قلب الظلام كرايات نصر منسلة، مدارية بذلك حزني ودمعاتي التي بدأت في التساقط ” ص (165).
الذكريات قاسية والماضي أليم شديد، لكن لا قطيعة مع الماضي حتى وإن كان قاسيا وأليما، ” الما عنده قديم ما عنده جديد ، وهو ما أؤمن به حقا، فأنا لا استطيع العيش في الحاضر، بشكل منفصل عن الماضي. بل أشعر أن ما يربطني بالماضي أقوى مما يربطني بالحاضر لهذا ينبغي أن أعيش بالتوافق بين فصول الزمنين” ص (180).
هناك صور كثيرة متلاحمة تدعو للسلام والعدل والمحبة وتمثل جوهر الرواية ومراد النصوص والحكايات:
-” أنا لستُ شمالا وأنتِ لستِ جنوبا
– وماذا إذا لم يكن الأمر كذلك؟ نحن لا نتشابه، ولا تجمعنا لغة ولا دين ولا عرق.
– ما يجمعنا أقوى من العرق واللغة والدين
شعرتُ أنني أثرتُ فضولها،لأنها توجهت إليّ بكامل جسمها ،بل ظننتُ أنني لمحتُ ظلا من الحنُوِ في عينيها.
– ما هو هذا الشيء الذي تعتقدين أنه أقوى من كل ما ذكرت؟
-الأرض” ص (225).
لا شك أن (سيمفونية الجنوب) رواية طويلة، لكنها مصممة في بناء معماري واحد منتظم وجميل، فيها كثير من الصور والتشبيهات. ولا بد للقارئ أن يلاحظ إكثار الكاتب من التشبيهات وكذلك الاسراف في استخدام الصور البلاغية في مواضع ليس هو بحاجة إليها..ومع ذلك لا يملك القارئ إلا أن يعجب بدقة التصوير الفني البديع والنظم المحكم للصور الجمالية للحكايات، تروي مريام عن دينانتي في مسرح المحاكمة: “أدهشني اليقين النابع منها، يقين يعانق اللؤم ولا يعانق الألم، لا يتردد، لا ينحرف عن مساره، ولا يتضارب مع محتواه.. لا أعرف، لم أعد أعي ما يحدث؟ أهذه ديبانتي؟ ديبانتي العرجاء التي عرفتها منذ أكثر من خمس سنين؟ التي أحببتها وأحبتني؟ كم لعبنا معا؟ ركضنا؟ تخاصمنا؟ غفرنا لبعضنا؟ وحكينا العجائب؟ كم كنت أجدها طيبة حد الطيبة، رقيقة حد النسمة؟” ص (229).
شأنها شأن الروايات الكبيرة اهتمت (سيمفونية الجنوب) بالأخلاق وبمعانيها العظيمة، وقدم (الكاتب) نقدا (هادفا) للصراع السياسي والإثني والديني من خلال شخصياته بأسلوب (نظيف) وتصميم محكم دون أن ينقلب واعظا. وتناول الأحداث التي أرقت مجتمعه وما تزال بطريقة صادقة من غير أن يغفل التاريخ وأسباب الصراع ودون أن يتحول إلى مؤرخ…وهذا هو جوهر الفن.