
المحقق – عزمي عبد الرازق
من النادر أن تُحظى هذه الأيام باتكاءة ثقافية يطل فيها الشاعر القدير عبد القادر الكتيابي، لا ليُحدَث عن تجربته فحسب، وإنما عن شعراء كبار، عرفهم عن قرب، وتسللوا خلسة كالنوار، لكن أدبهم ظلّ يشع في عروق الذاكرة وينبض في الوجدان، فلا هاشم صديق كان قلبه مضخة صدئة ولا محمد المكي إبراهيم، فقد كان الوطن الملهم الأول في كتاباتهما.
ولذا انتظم منتدى جمعية إسناد لدعم المتضررين من الحروب والكوارث، في مقره بالقاهرة، للتعريف بهذه التجربة وأثرها العميق في الحياة، وقدم لها الأستاذ عبد القادر الكتيابي، تحت عنوان” أثر الشعر في إذكاء الحِس الوطني” وقفات مع أدب الراحلين محمد المكي إبراهيم وهاشم صديق، ما بين التاريخ والثقافة والغناء، وحب الخير، لأن الأشرار لا يغنون.
الحرب والوطن والشعر
ولتعميق الحِس الوطني اسشتهد الكتيابي بمقولة الشيخ الشعراوي بأن الشجرة لا تُسقى من ثمارها، وقال إنه ما لم يتشرب الشاعر بالإحساس بالوطن ومعرفة قضاياه سوف يكون ما يكتبه ضربُ من النظم، ونفذ إلى ضرورة تعميق الحس الوطني لدى فئة المبدعين، لافتاً إلى أن إدراك المبدع للمحتوى الذي سيقوم بتقديمه أفضل له ولنا حتى لا يقف على الجانب الخاطئ من التاريخ، كما لا بد للمبدع أن يكون متجرداً في قوميته.
وبخصوص الحرب التي تدور الأن في السودان قال الكتيابي إنها جاءت بغتة، والذين درسوا التاريخ وانتبهوا للأحداث المتحركة كانوا يعرفون أنها سوف تقع، مشيرًا إلى منطقة الساحل التي جاء منها الخطر، وقطع بأن ثمة فرق بين العرب والأعراب، فالأعراب ليسوا هم الذين يتكلمون العربية، وإنما هى مجموعات بدوية توجد في أماكن كثيرة، في الصين وباكستان وساحل عمان، فمنهم من يؤمن بالله واليوم الأخر، ومنهم المنافقون كما حدث عنهم القرآن “ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر”، لكن الغالبية منهم في سبيل مصلحته يمكن أن يصادق الشيطان.
مأزق العقل البدوي
وقدم الكتيابي تحليلاً ثقافياً لمأزق العقل البدوي، وكمية العنف في هذه الحرب، وتحدث عنها أيضًا من ناحية تاريخية وتناول القرآن لها، وقال إنه شهد بداية الحرب في الخرطوم، وتسلل خلسة للنجاة هو وأسرته، وكشف عن اعتقاله والتحفظ عليه في أحد الارتكازات من قبل ميليشيا الدعم السريع لمجرد أنه يظهر في التلفزيون دون حتى أن يميزوا أسباب ظهوره، هل هو سياسي أم شاعر أم أنه شخصية مغايرة!
على المدى الطويل
وتحدث عن الوطن في عيون الشعراء، تحديدًا ود المكي وهاشم صديق، وأهمية التجرد من الحزبية، واستشهد بالشاعر عاصي الرحباني، حين سألته المذيعة وقالت له أنت تحب وليد جنبلاط كثيراً فلماذا لم تكتب فيه الأشعار؟ فرد عليها قائلًا” ممكن يطلع خائن، فماذا أفعل حينها؟” وهذه حدثت لكثير من الشعراء الذين تغنوا لأنظمة سياسية ورؤساء ثم عادوا وذمّوهم بعد ذلك، مثل تجربة محجوب شريف مع الرئيس جعفر نميري ومايو، في الأول كتب محجوب شريف يمدح النميري وتغنى بذلك محمد وردي ” جيتنا وفيك ملامحنا” ثم بعد الانقلاب عليهم كتب محجوب، كما لو أنه يصحح موقفه الأول ” لا حارسنا ولا فارسنا”.
وأكد الكتيابي أن محجوب شريف أصبح في السنوات الآخيرة ينتمي للوطن، وقال أنه بلا حزب، وأضاف الكتيابي ” المبدع الواعي هو الذي يحسب الأحداث على المدى الطويل” كما أن صفحات التاريخ واسعة الثقوب، فكم من الشعراء كان مع المتنبي ولكننا لا نعرفهم، سوى أبوفراس الحمداني، والذي اشتهر هو الآخر بسبب المتنبي، وكذلك الشعراء في زمان محمد سعيد العباسي والتجاني يوسف بشير كثر، ومع ذلك لا ذكر لهم، وهي قاعدة ربانية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} فما ينفع الناس هو ما يساير الحس البشري، والشعر كما قالت السيدة عائشة “هو كلامٌ حَسَنُهُ حسنٌ وقبيحُه قبيحٌ”.
من غيرنا
ومضى الكتيابي إلى استدعاء تجارب الشعراء السودانيين، وقال إن ود المكي وصلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر تعاصروا في جامعة الخرطوم، وكانت تلك الفترة تضج بقضايا كثيرة، ومن بينهم شعراء من مناطق مختلفة، ساعتها بدأت تثور معركة الهوية، ولعل النور أبكر، هو الذي ابتدع مصطلح (الغابة والصحراء) وأضاف الكتيابي “تحدثت مع محمد المكي كثيراً في ذلك الأمر، وهو شاعر واسع الأفق، يعرف الفرق بين المدرسة والتيار”، إذ أن لكل مدرسة ظرفها الزمني والتاريخي، مثل مدرسة الديوان والشعر الجاهلي، ولكل مدرسة روادها، أما التيار فقد يكون تياراً فكرياً يكتب على ضوء مدرسة الحداثة أو غيرها، وكذلك محمد المكي لم ينتم إلى مدرسة، بل كان موقفه وسطياً، وكان سودانياً قومياً، وقد حدثت مساجلات على صفحات الصحف وقتها بين صلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر، وقد أيقظ ذلك التيار في بعض الشعراء نزعة عرقية، وهو ما لم يكن مقصوداً بالغابة والصحراء، وعندما كتب محمد المكي – من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر – كان يمدح جيله المتميز، ولم يكن يحدث وقتها في السودان كما يحدث اليوم، كان هنالك ترف ثقافي واحتفاء بالشعر الجيد، وهذا يذكرني بالإمام علي بن أبي طالب عندما سأله أحدهم: لماذا اتفق الناس على خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، واختلفوا على خلافتك؟ فرد عليه الإمام: لأنهم كانوا خلفاء على أمثالي، وكنت خليفة على أمثالك.
وعرض الكتيابي ملامح من تجربة هاشم صديق، وشاعريته الجميلة، ومواهبة المتعددة، في النقد والكتابة للإذاعة والتلفزيون، حيث أنه من طينة الشعراء الذين حملوا هموم أمة كاملة على كاهلهم. وأشار إلى تجربة ود المكي مع وردي وكذلك هاشم صديق أو ما يعرف بالاكتوبريات، مستدعياً فيض تلك التجربة الغنائية الثرة. وقرأ الكتابي بعض النصوص لود المكي منها “من غيرنا: إلى جانب قصيدته الأكثر شُهرة في مصر والوطن العربي “على كيفي أرقع جبتي أولا أرقعها .. أطرزها من اللالوب .. ألبسها على المقلوب. أخلعها .. على كـيفي. أنا لم أنتخب أحداً ولا بايعت بعد محمد رجلا”،
وقد استدرّ الدموع حينما وصل إلى مقطع “لمن يا طبل والخرطوم غائبة و أمدرمان والنيلان يختلفان.. والأطفال في الخيران والحرب الدمار الجوع
كيف الحال؟ لا تسأل عن الكيفِ”.
السودان يسع الجميع
من جانبها أشادت الأستاذة أميرة الفاضل الأمين العام لمبادرة إسناد لدعم المتضررين من الحروب والكوارث بتفاعل الشعراء مع قضايا الوطن، وطالبت بنبذ الخلافات السياسية والجهوية والتوافق على هموم جامعة، وشددت على ضرورة أن يكون الوطن أولاً، وأضافت في تعليقها على حديث الكتيابي “نحن نبحث عن ما يجمعنا، وقد تعلمنا دروساً قاسية خلال هذه الحرب، وأول درس بالطبع هو أن نتوافق ونتواثق كسودانيين على الحد الأدنى” فضلاً على أن نجتمع كأحزاب سياسية ومكونات مجتمعية وشعراء على حب السودان والحفاظ عليه. وأعربت عن أملها بأن نخرج من كل هذه الدروس ونحن أقوى، وشعارنا “السودان يسع الجميع”.
وقالت أميرة الفاضل نحن في اسناد كان تركيزنا منذ اليوم الأول على الجانب الاجتماعي والاستجابة لاحتياجات المتأثرين بالحرب، الغذاء والكساء والدواء أو السكن، لكننا أيضاً بذات القدر نحرص على الجوانب الثقافية وهى لا تقل أهمية، ومن بينها هذا المنتدى الذى يشرفه اليوم الشاعر الكبير عبد القادر الكتيابي، وقدم فيه إضاءت مهمة وملهمة حول تجربة الراحلين محمد المكي إبراهيم وهاشم صديق، على أمل أن “تطل آخر شهرزاد وتحل في البلد الأمين وخريفه يسخو وتمتلىء الضروع ونواعم الأيام من ذهبت تبادر بالرجوع” على حد قول الكتيابي.