*ما بعد الإزالة .. معركة تأمين الخرطوم مستمرة*

*ما بعد الإزالة .. معركة تأمين الخرطوم مستمرة
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
لم تكن العشوائيات يوماً مجرد أزمة عمرانية أو مشهدًا بصريًا غير منظم، بل كانت دائمًا قنابل موقوتة تهدد الأمن والاستقرار، ومع اندلاع الحرب وتمرد مليشيا الدعم السريع، انفجرت هذه القنابل في وجه الخرطوم. إذ تحولت بعض هذه المناطق إلى أوكار للجريمة، حيث ثبت بالدليل القاطع أن كثيرًا من عمليات النهب والسلب التي استهدفت الأحياء السكنية المخططة انطلقت من داخلها، مستفيدة من فوضى الحرب وغياب السيطرة الأمنية.
في زمن الأزمات، تُكشف الحقائق التي طالما تجاهلها البعض، والعشوائيات كانت واحدة من هذه الحقائق. لم تعد مجرد مساكن بائسة لمن ضاقت بهم سبل العيش، بل أصبحت ملاذًا آمنًا للخارجين عن القانون، وساحة مفتوحة لممارسات الفوضى. استفاد منها المجرمون في التخفي، واتخذتها عناصر من المليشيا نقطة انطلاق لجرائمهم، وأصبحت طرقها الضيقة ومسالكها العشوائية حواجز طبيعية تعيق أي محاولة لضبط الأمن.
لذلك، فإن قرار إزالة هذه العشوائيات لم يكن ترفًا إداريًا، بل كان ضرورة أمنية ملحة. تحركت سلطات ولاية الخرطوم أخيرًا في الاتجاه الصحيح، فبدأت حملات الإزالة لاستعادة السيطرة ووقف النزيف الأمني الذي شكلته هذه المناطق. لكن هذه الخطوة، رغم أهميتها، ليست كافية وحدها. فالإزالة يجب أن تتم وفق القانون، مع مراعاة الجوانب الإنسانية، حتى لا يتم استغلال الأمر لإثارة الفوضى مجددًا. والأهم من ذلك، أن تكون هناك خطة واضحة لما بعد الإزالة، لأن التجربة أثبتت أن العشوائيات تعود بسرعة إن تُركت الأماكن فارغة بلا رقابة.
المعركة الحقيقية لا تنتهي بمجرد إزالة المباني العشوائية، بل تبدأ بعدها. لا بد من تأمين هذه المواقع، ليس فقط لمنع عودة المخالفات، بل لضمان عدم تحوّلها إلى مناطق مهجورة يسهل إعادة استغلالها من قبل العصابات. يجب أن يكون هناك وجود أمني مستمر، مع رقابة صارمة تمنع إعادة التعدي. وفي الوقت نفسه، لا بد من التفكير في حلول مستدامة، فهذه الأراضي لا ينبغي أن تظل فراغًا، بل يجب إعادة توظيفها بما يخدم المصلحة العامة، سواء بتحويلها إلى حدائق، أو مشاريع تجارية، أو منشآت خدمية، حتى لا تبقى مجرد مساحات تنتظر العشوائية الجديدة.
لقد أظهرت الحرب الكثير من مواطن الخلل في ولاية الخرطوم، وكانت العشوائيات أحد أخطر هذه الملفات. لا يمكن الحديث عن استعادة الأمن في الولاية دون تفكيك هذه البيئات التي أنتجت الفوضى وساهمت في إطالة أمد الأزمة. المطلوب اليوم ليس مجرد جرافات تزيل المباني العشوائية، بل رؤية استراتيجية تضمن عدم نشأتها مجددًا، لأن الأمن لا يتحقق بالإجراءات المؤقتة، بل بالتخطيط الدائم والاستباقي.