
مريم عز الدين
لاتزال صورة الموسيقار السوداني العبقري الحساس، حافظ عبد الرحمن عالقة بذهني، أتذكر ملامحه التي تبدلت بسبب المرض، ثم تمر علي ذات الصورة ولكن هذه المرة مقرونة بخبر وفاته.
خبر صامت متواضع هادئ بين ضجيج الأخبار، يعزف سيمفونية حزينة بداخلي، كلما تذكرت روعة معزوفاته وجمالها الذي أنطق أرض السودان…وجعلنا نحن السودانيين نطرب طرباً أصيلاً ينبع من عمق ارتباطنا ببلدنا.
معزوفات تروي قصتنا وتعبر عنّا لنا ولغيرنا، هكذا تتكون الهُوية، من منتوج مَن لهم صلة ب”البلد” كجغرافيا، كاجتماع، كتاريخ، كثقافة… حتى يصبح الوجدان وجداناً سودانياً أصيلاً، مُجمّراً بجمر المعايشة والانتماء.
ما رأيت توثيقاً لحياة حافظ ولا حتى لقاءً يحكي ويروي قصته بتفاصيلها، ما عرفت كيف تتخلق بداخله كل هذه الأنغام والإيقاعات بنفس ونكهة أصيلة صادقة، حاله كحال أغلب مبدعي بلادي، حكاياتهم بلا توثيق!.
وها أنا أصدم مرة أخرى بخبر وفاة حمد البابلي، هذا الرجل البسّام اللطيف، كنت دائماً ما أمر بمحل الأثاثات الذي يعمل به في أم درمان وأنا في طريقي للجامعة، أمر وأستذكر فيديو كليب قديم كنت أشاهده على قناة الخرطوم، يتردد مقطع لطيف في ذاكرتي “…سمحة ست الذوق وجميلة، سمحة ست الذوق وجميلة،…راقية لا مكياج لا زينة”
سبق هذا الخبر، خبر وفاة عازف الفلوت أسامة بيكلو، وقبلهما وفاة فناننا الذي نتعلم ونتألم لساعات ونحن ننصت لأمواج أنغامه وألحانه التي تهيج فتصبح إعصاراً ثم تهدأ، ود الأمين …قلت بيني وبين نفسي: من سيغني للسودان؟
قبل أيام شاهدت فيديو يظهر فيه عمر إحساس، وهو يُرسل لحناً من أرقى ما يكون، قد جَمّل مفردات أغنيته التي تدعو للسلام والوحدة والتعايش بين الفور والعرب، رسالة يبثها لممرضات أمريكيات وهو طريح الفراش بعد اجرائه لعملية في الركبة ويبدو على وجهه التعب.. أثارني فضول لمعرفة قصته ولكن، من سيحكي لي عن عمر إحساس؟ أين أطراف وخيوط قصته، ما الذي عاناه وكافح من أجله، كيف بدأ وكيف شعر واستشعر وكيف غنى ولماذا تغنى؟ وكيف رأى السودان؟
أين قصة حمد البابلي، وما الذي حرّك طاقته لينتج أكثر من 180 أغنية؟ لماذا لا نعلم سر تسميته بفنان الأمهات، مَن مِن جيلنا، جيل الشباب يعلم قصة حَمَدْ بتقاطعاتها وصراعاتها ودوافعها… *هذه القصة التي لا تعلن عن وجودها إلا بعد أن يموت البطل !!*
لماذا ؟! لماذا بعد الموت نلتفت للقصة؟ لماذا يُستثار فضولنا بعد أن تختفي الشخصية الرئيسية، وبعد أن يُنصب صيوان العزاء؟
للسودان أنغام، له إيقاع، له حكايات تنتظر، له مبدعون، له من يهواه ويعبر عن هواه، له من يحتضن كل تناقضاته لينتج فناً ليس كمثله فن. للسودان قلب، للسودان صوت ، موسيقى، ايقاع، مقام، للسودان قصته الفريدة، وعوالمه ودهاليزه التي تتعزز على القلم والورق.
لابد أن نكتب، لابد أن نحكي، لابد من توثيق جاد يلتزم ويتبنى إطلاق وتحرير قصة السودان، ويوثق لمبدعيه في مختلف مجالات الحياة.