مستقبل العلاقات الدبلوماسية السودانية-الأمريكية
دكتور حسن عيسى الطالب
العلاقات التاريخية بين السودان وأمريكا دبلوماسياً ومنذ فترة الحكومة الانتقالية الأولى برئاسة عبد الله خليل ظلت متناغمة عبر تاريخ الدبلوماسية الثنائية مع الإدارات الجمهورية، بدءا بإدارة إيزنهاور عام 1953م.
وقطعت العلاقات الدبلوماسية في عهد الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون عام 1967م بعد هزيمة الأيام الستة ولم يتم استئنافها إلا في عام 1972م إبان إدارة الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون.
وكانت أقسى العقوبات التي صدرت ضد السودان، طيلة السبعة عقود الماضية من التعامل الثنائي الدبلوماسي بين البلدين قد صدرت في عهود الديمقراطيين وخاصة فترة الرئيس بيل كلينتون (1993- 2001م) حيث صدرت العقوبات الاقتصادية، ومن ذلك تصنيف السودان دولة إرهابية. وظلت تلك العقوبات سارية على مدى 27 عاما حتى ألغيت في عام 2020م في عهد دونالد ترمب، الرئيس الجمهوري الأخير.
بيد أن من أهم ما يتعين النظر إليه من تلقاء فهم السياسة الخارجية المستقبلية ثنائياً هو التيقن بأن الرئيس ترمب سيعمل بنفس الاستراتيجية المرسومة لإدارته الجمهورية السابقة فيما يتعلق بالسودان، وغالباً بطاقم السياسة الخارجية وتوجهاتها التي يرسمها الخبراء الاستراتيجيون في الحزب، وهؤلاء هم غالباً مَن يتولون الملف خلال فترة الأربع سنوات القادمة وحتى 2029م.
الإدارة الترمبية يتوقع أن تكون فرصة سانحة ومصادفة نادرة لانتهازها لتنمية سودان ما بعد الحرب، وتعزيز العلاقات الثنائية المتأرجحة مع أمريكا منذ أبريل 2019م ، والوقوف بجانب النشطاء غير المنتخبين وتبني أطروحاتهم عبر المندوب الرئاسي توم بيريللو.
ويتعزز الطرح للتوجه الجديد من تلقاء الفهم المدرك للتوجهات المعلنة للرئيس ترمب، والمتمثلة في شعاره الانتخابي:
‘اجعلوا أمريكا الأولى مجددا’ Make America Great Again
فمعظم مؤيدي ترمب وقاعدته الصلبة هم من رجال الأعمال والمفكرين التقليديين المناهضين لليسار والليبرالية الأخلاقية، المتمثلة في شيوع تيارات المثلية وحرية الإجهاض، وتنامي ثقافة مساواة النوع والجندر ..إلخ.. فضلا على العكوف الراسخ والتبشير بالمبادئ التقليدية المرتكزة على إعلاء قيم الأسرة والتدين، والعلاقات الاجتماعية المتوارثة، وإعلاء قيمة العمل، وتعظيم الكسب الاقتصادي، وفتح أسواق الموارد الأساسية والخامات، وتسهيل تصدير منتجات الشركات الأمريكية.
وستتركز العلاقات التجارية الخارجية إبان فترة ترمب على تأمين وتعظيم حظوظ الشركات الأمريكية في مجالات الطاقة والمعادن الثمينة وجهود كسب التنافس مع الصين وروسيا في مضمار الحيازات الجيوستراتيجية على خامات الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي، وخاصة خامات المعادن الأساسية كالكولتان، والنحاس، والبلوتونيوم، ورمال السيليكون، التي تصنع منها ألواح وخلايا الطاقة الشمسية، وكذلك الغاز والنفط.
كل هذه الخامات متوفرة بالسودان، وكل ما يحتاجه لتعزيز وجذب المستثمرين هو بسط الأمن الشامل في كل ربوعه، وكسب المعركة الجارية ضد تمرد ميليشيا الدعم السريع بأعجل ما يتيسر.
يعتبر ملف الأمن القومي ومحاربة الحركات الإرهابية عبر التعاون الثنائي والدولي، وخاصة ضد حركات مزعجة لأمريكا مثل داعش وبوكو حرام، من أهم مقتضيات السياسة الخارجية لترمب. وسوف يعزز وجود حكومة قوية في السودان من إقناع ترمب بتشجيع صفقات تضمن تأمين الاستثمارات.
ولعل تصريحات ترمب بعد فوزه الكاسح في 5 نوفمبر 2024م وإعلانه بتوفر تقارير يمكن من خلالها تصنيف ميليشيا الدعم السريع كحركة إرهابية تأتي بذكاء في هذا السياق، ويندرج هذا في تشجيع الحكومة القائمة للمضي في مسيرة تعزيز سيادتها، وفسح المجال عمليا لإيجاد موقع قدم لأمريكا في السودان، لا سيما من تلقاء مواقف البرهان في منزلة بين المنزلتين، وعلاقاته التوافقية المتماهية سياسياً واستراتيجياً مع حليفتيه الكبريين في المنطقة وهما السعودية ومصر. ومن تلقاء أمن البحر الأحمر والجوار الإقليمي في منطقة الساحل وشمال أفريقيا.
المشكلة سودانياً تكمن حصرياً في تأخر القيادة العسكرية في حسم التمرد منذ 15 أبريل 2023م وتطاول العمليات العسكرية والخسائر المتنامية في أوساط المدنيين الناجمة عن هجمات الميليشيا على الأبرياء العزل، وعدم التمكن من وقف الانتهاكات ضدهم، وخاصة في ولاية الجزيرة، إذ يضفي ذلك الأمر الشعور السلبي بضعف الجيش وإمكاناته، وعدم قدرته على الحسم، وضعف بسط سلطة الحكومة القائمة، وهذا يفسح المجال للكيانات الداعمة للتمرد بنقل تكهنات تكتيكية وإذكاء حروب إعلامية تعزز أجواء عدم اليقين والتردد، في الأوساط الأمريكية وتخذيلها عن إتخاذ أية قرارات حاسمة يستفيد منها السودان.
من حسن الصدف أن يأتي فوز ترمب متزامناُ مع تعيين د. علي يوسف وزيراً للخارجية في السودان، وهو شخص وطني، وسفير محترف، وداعم صريح لموقف الجيش الوطني، ويتمتع بخبرة لا تقل عن 40 عاما في الدبلوماسية، وبإمكانه تشكيل فريق من الدبلوماسيين المخضرمين والمجربين لعبور هذه المرحلة الحساسة.
ما يتعين فعله على المستوى الداخلي هو تشكيل مجلس استشاري من الخبراء والمتخصصين السودانيين وفي كافة المجالات، لوضع خارطة طريق لمرحلة إعادة الإعمار، يعمل ضمن مجلس السيادة، وعلى مستوى كافة الولايات، وخاصة خلال الفترة الانتقالية، لأن البرهان كرئيس لمجلس السيادة، وقائد عام للجيش الوطني، لن يستطيع بمفرده، اجتراح خطط في هذا المضمار الذي لا يدخل ضمن تخصصه.
فالهم الوطني الأسمى يتحقق بإعداد خطط واعدة وواقعية لجذب الاستثمارات، وتحديد مسارات التعامل الدبلوماسي الخارجي على المستوى الثنائي ومتعدد الأطراف، وجذب التأييد الدولي خلال الفترة الانتقالية ولتوفر إمكانية إنجازها بنجاح.