رأي

ملاحظات على تسجيلات الدكتور حسن مكي (3)

صديق محمد عثمان

إذن فكتاب “الحركة الاسلامية: التطور، الكسب، والمنهج” كان استجابة للحاجة الماسة لشرح مشروع الحركة الإسلامية السودانية التي استفادت من فترة المصالحة مع الرئيس جعفر نميري وانتهزت فسحة الحرية المحدودة في إنجاز أعمال كبيرة جداً. كانت حرية الحركة الإسلامية في الحديث عن نفسها ومشروعها منقوصة وغير كافية للتبشير بفكرها ومشروعها على النحو الذي يتطلبه المشروع والفكر ولكن أعمالها الكبيرة التي أنجزتها لم تكن بلا تخطيط أو تفكير أو حتى تبشير في كثير منها.

كذلك الأمر مع مشروع الإنقاذ الوطني الذي اضطرت الحركة إلى القيام به وتنفيذه في ظروف استثنائية اقتضتها طبيعة المرحلة ومرة أخرى ضحت الحركة بحرية التفكير والتبشير المعلن المفتوح في سبيل إرساء دعائم عناصر مشروع تتحدث عن نفسها. وكما حدث في المرة الأولى فقد وجد الشيخ الترابي الحاجة ماسة مرة أخرى إلى جمع ما تم إنجازه من عناصر المشروع والمنهج الذي تم إنجازه بها والفكرة الجامعة التي كانت تقف وراء عناصر وخطوات ومراحل المشروع في كتاب آخر هو ( السياسة والحكم ، النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع) والذي سبقته محاضرات وكتيبات حول المصطلحات السياسية وأوراق مثل (عبرة المسيرة).

والإسلاميون اليوم معنيون بصفة خاصة بالعودة إلى تجربة حكم الإنقاذ والخروج على الناس بقراءة للأحداث والسياسات والمنهج الذي اتبعوه أو تنكبوه في قيامهم بالكثير من أعمال السلطة خلال فترة الإنقاذ، خاصة الفترة التي اعقبت المفاصلة الشهيرة في العام 1999 حتى سقوط حكم الإنقاذ في ابريل 2019. وكما هو الحال بعد الانتخابات البرلمانية في 1986 وانقشاع هوجة الاستقطاب التي بلغت من الغرابة والاستخفاف بعقول الناس جعل قوى اليسار التي كانت وراء انقلاب نميري في مايو 1969 تتهم الحركة الإسلامية بسدانة نظام مايو، فإن الحاجة الآن ليست في خطاب إلى القوى التي شاركت الإنقاذ أسوأ أخطاء حكمها في فصل الجنوب وإشعال حريق دارفور ثم قفزت بعد سقوط الإنقاذ تنصب نفسها (قوى ثورة) في استخفاف شديد بعقول ومشاعر الناس، ولا في خطاب مصوب إلى القوى الخارجية التي ظلت الإنقاذ تطلب ودها وتأمل في نيل الاعتراف والرضاء منها، وإنما الخطاب مطلوب لذات الفئات السابقة التي خاطبها كتاب الشيخ الترابي (الحركة الإسلامية التطور ، الكسب والمنهج) قبيل انقلاب الإنقاذ وهي تحديداً قواعد الحركة الإسلامية التي اختطفت الإنقاذ حركتها وحبستها في أضابير مؤسسات السلطة واستعانت عليها بتدابير وإجراءات وتراتبية الهرم السلطاني في محاولة لتدجينها وإجبارها على القبول بفكرة التحول من حركة تغيير اجتماعي إلى حزب حكومة.

والفئة الثانية المقصودة بخطاب الإسلاميين هي قواعد الأحزاب والكيانات الاجتماعية، التي استهدفت مشاريع الإصلاح الإداري الهيكلي والوظيفي للسلطة التي نفذتها الحركة الإسلامية في بداية الإنقاذ، رفع الغطاء عنها وفتح السقف فوقها فانطلقت تساهم في مشاريع تقسيم الحكم الاتحادي وثورة التعليم وغيرها على نحو ضاعف الشقة بينها وبين قياداتها السياسية السابقة التي كانت في السابق تحتكر إرادة هذه الجماهير وتوظفها عبر مصالح ومؤسسات الحكم، ولذلك وقعت عليها إجراءات الاصلاح السياسي وقعا أليماً ولا يزال أغلب هذه القيادات يعتقد أن الإنقاذ لأول عهدها كانت ظالمة وقاسية ولكن بعد المفاصلة اعتدلت وأصبحت أفضل حالاً ومعياره الوحيد في ذلك هو موقعه هو من وظائف ومصالح السلطة.

والمدخل لهكذا خطاب من الإسلاميين بصفة عامة لا يكون بإعادة تفسير الأحداث بذات الأدوات القديمة ومحاولة إعادة إنتاج خطاب الأزمة الذي صور صراع الإنقاذ مع الحركة الاسلامية على أنه صراع بين الشيخ والرئيس البشير متعمداً ظلم البشير بوضعه نداً لشيخ الحركة، ولا بنسبة الكثير من الأخطاء الكبيرة للإنقاذ للرئيس البشير أو الجيش أو الأمن أو أياً كان الأشخاص الذين وقفوا وراء تلك السياسات والأحداث ظاهرياً. فالواقع أن الحركة الإسلامية السودانية هي الحركة الوحيدة بين رصيفاتها في الوطن العربي التي لم يقع بينها وبين الدولة العميقة صراع دموي وذلك لعدة أسباب أهمها وأولها طبيعة المجتمع السوداني الذي لم تتشكل فيه دولة مركزية عميقة نسبة لاتساع رقعته ولطبيعته الاجتماعية المتجددة، فالسودان إقليم وليس دولة، حاول الاستعمار الأوروبي اقتسام النفوذ عليه وعجز عن حصره داخل حدود منضبطة تسهل السيطرة عليه، ولذلك ظل أثره كمجتمع أكبر بكثير من أثر سلطة الجباية المركزية التي أوكل الاستعمار أمرها لبضعة أفندية سلمهم مركز الحكم تحت اسم الاستقلال، فلم تتغير علاقة السلطة المركزية بالمواطن بعد يناير 1956 عنها قبل ذلك، بل ظل لسان السلطة نفسه أجنبياً عن لسان شعبها ناهيك عن سياساتها، ولذلك ظلت السلطة سطحية ولا عمق لها. وحينما استولت عليها الحركة الإسلامية كانت عملياً اكبر حجما وأوسع أثراً وأكثر تنظيماً.

ورغم ذلك فقد حرصت الحركة في سياساتها الأولى على أن تسوق مؤسسات السلطة سوقاً لطيفاً لترى فوائد هذه السياسات، فالجيش كان بحاجة ماسة إلى الدفاع الشعبي الذي حول هزائمه السابقة إلى انتصارات وكان بحاجة ماسة إلى كوادر فنية متعلمة تؤسس له صناعاته الحربية وكان بحاجة إلى فتح أبوابه لمجتمعه وإسقاط لافتات (ممنوع الاقتراب والتصوير) والخروج من معسكراته إلى جامعات ومؤسسات المجتمع، فالضابط والجندي ليس كائناً فضائياً ينبغي قفله في أشلاق جيش وشرطة وغيرها. هذه المفاهيم سهلت على المؤسسة العسكرية الاقتناع بخبال فكرة احتكار القوة ومهنة القتال وفتحت المجال واسعاً لتدريب قطاع كبير جداً من المجتمع وقيام مؤسسات الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية. وكذلك الحال بالنسبة للدبلوماسية وغيرها من السياسات الأولى التي استهدفت إصلاح المفهوم المهني لوظيفة السلطة، وقد مضت هذه السياسات دون مواجهات ذات بال إلا من بعض الاحتيالات والخدع التي كان يستخدمها الاسلاميون أنفسهم في صراعهم مع حركتهم فتسمع حينها (إخواننا العساكر ما راضين) أو (الرئيس زعلان من كلام شيخ حسن).

لم تقع مواجهة بين الحركة والدولة العميقة إلا حينما دخل الاسلاميون موسسات السلطة وانتشروا في مصالحها ومؤسساتها وأصبحوا هم الدولة العميقة التي انقلبت على مسيرة الإصلاح ورفعت يد الحركة وواجهتها مواجهة عنيفة جداً وعميقة جداً ما كان يمكن لأي سلطة أخرى أن تفعلها فصادرت مؤسساتها واستولت على أموالها ومواردها وقطعت علاقاتها وغيرت فلسفة سياساتها فتحولت ثورةً التعليم إلى سوق للجامعات والمعاهد وتوقفت حركة التفكير في مناهج حقيقية للتعليم، وتحولت ثورة الاتصالات إلى (مافيا) اتصالات فلم تعد أصول الشركات إلى الشعب يساهم فيها مساهمة حقيقية ولم تتحول سهولة الاتصال إلى أداة لتوسيع الحرية الفكرية والثقافية والسياسية بل تحولت إلى ثروات تتصارع عليها قيادات أمنية وعسكرية وسياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى