رأي

هل انتهك الجيش السوداني اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية ؟

السفير محمد الحسن إبراهيم

منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها بصدد تطبيق عقوبات اقتصادية على السودان بحجة استخدامه أسلحة كيميائية في حربه ضدّ المليشيا المتمردة، انتشرت كثير من الأخبار والتحليلات والمقالات التي تحدثت عن قيام القوات المسلحة باستخدام الأسلحة الكيميائية وكأنها مسالة مُسلمٌ بها ومؤكدة ولا سبيل لنفيها أو التحقق منها !!

ابتدرت المنصات الإعلامية الموالية لمليشيا التمرد، وتلك الأخرى المتعاطفة معها، الترويج للأمر، كما نشرت الوسائط الإعلامية الأخرى عدداً من المقالات ذهبت إلى جانب الادعاءات الأمريكية بل تطوع بعض كتاب المقالات إلى مجاراة التمرد في تناوله للمسألة وتبنت مواقفه في تحديد ما قالت إنها أماكن ومواقع وتواريخ استخدمت فيها تلك الأسلحة، وهذا أمر فيه من الغرابة ما فيه إذ تفوقت بعض الأقلام على مانشرته صحيفة “نيويوركتايمز” صاحبة المقال الذي استندت إليه الإدارة الأمريكية في توجيه اتهاماتها، فقد امتنعت الصحيفة الأمريكية عن ذكر مكان أو زمان الاستخدام المزعوم وقالت الخارجية الأمريكية إن زمان الاستخدام كان في وقت ما من العام الماضي، وفي مكان غير معلوم !!

تعميماً للفائدة، ولمناقشة هذه الادعاءات والمقالات المنشورة والفديوهات المصاحبة لبعضها سنتطرق في هذا المقال إلى تبيان ماهي الأسلحة الكيميائية وكيف تم استخدامها في العالم مما دعا إلى حوارات طويلة أفضت إلى اتفاقية دولية لمكافحة إنتاج واستخدام الأسلحة الكيميائية وتدمير مخزوناتها، وقد عرفت باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لعام 1993 ونشأت على ضوء ذلك منظمة حظر الأسلحة الكيميائية واتخذت من لاهاي عاصمة هولندا الإدارية مقراً لها.

*ما هي الأسلحة الكيميائية:*
1. حددت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية تعريف هذه المواد في فقرتين بينت من خلالهما المقصود بالأسلحة الكيميائية المحظورة بموجب الاتفاقية، وذلك لأن المواد الكيميائية ضرورة لابد منها في كافة الصناعات الكيميائية الغذائية منها والدوائية والطبية والعلاجية، لذلك قصرت التعريف علي المحظور وهو موضوع الاتهام الأمريكي.
2- يقصد بمصطلح “الأسلحة الكيميائية” ما يلي، مجتمعاً أو منفـرداً:
(أ) المواد الكيميائية السامة وسلائفها، فيما عدا المواد المعدة منها لأغراض غير محظورة بموجب هذه الاتفاقية ما دامت الأنواع والكميات متفقة مع هذه الأغراض؛
(ب) الذخائر والنبائط المصممة خصيصاً لإحداث الوفاة أو غيرها من الأضرار عن طريق ما ينبعث نتيجة استخدام مثل هذه الذخائر والنبائط من الخواص السامة للمواد الكيميائية السامة المحددة في الفقرة الفرعية (أ)؛
(ج) أي معدات مصممة خصيصاً لاستعمال يتعلق مباشرة باستخدام مثل هذه الذخائر والنبائط المحددة في الفقرة الفرعية.

من هذه التعريفات يتضح جلياً أن المصطلح المقصود يختلف عمّا أورده كثير من كتاب المقالات والعرضحالات الذين يدعمون فرضية استخدام القوات المسلحة لأسلحة كيميائية، بشكل مباشر أو غير مباشر.

لقد كان السودان ضحية لفرية إنتاج الأسلحة الكيميائية، وكما هو اليوم يساهم بشكل مباشر في تأكيد الاتهام سياسيون وكتاب رأي منحازون لمليشيا آل دقلو، فإن الفرية الأولى نسجها سياسي في وزن كبير كان يباهي بها في الفضائيات، ولم يخجل منها أو يعتذر عنها، ولم يعدها خيانة وطنية أو إضراراً بالبلد ، وقد تعرضت لقصف صاروخي في أغسطس من العام 1998 دمر مصنع الشفاء للأدوية الطبية والبيطرية وتقلصت معه إنتاجية الأدوية في السودان إلى مادون 30% بعد أن كان يغطي احتياجات البلاد من الأدوية البيطرية والأدوية الطبية ويصدر منها إلى أفريقيا خاصة أدوية الأمراض المدارية كالملاريا.

وما كان من مشهد بالأمس يتكرر اليوم، إذ نجد أن عدداً من السياسيين والناشطين رحبوا بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد وتبارى في تأكيد الفرية الجديدة بعض أصحاب المقالات حيث اكتفى بعضهم بذكر اسم مستعار، بينما تاه بعضهم في خيلاء وأورد اسمه وصورته إلى جانب المقال .. فلا توارى خجلاً مَن وشى بمصنع الشفاء بالأمس ولا مَن يريد أن يلحق بسوق خنق اقتصاد البلاد اليوم !!

*مَن يملك التأكيد علي استخدام أسلحة كيميائية:*
نشرت صحيفة النيويورك تايمز في 16 يناير 2025 مقالاً كتبه الصحفيان ديكلان وولش و جوليان بارنز أوردا فيه أن القوات المسلحة السودانية استخدمت أسلحة كيميائية في حربها ضد قوات الدعم السريع ونسبا الأمر لموظفين في الادارة الأمريكية ولم يحدّدا الزمن الذي استخدمت فيه الأسلحة بل ذكرا أنها تمت في وقت ما من العام 2024، وعن المكان أيضاً لم يتم تحديده، فقد ذكرا أنها تمت في منطقة نائية استهدفت قادة في حركة التمرد ومرة أخرى في أنحاء العاصمة الخرطوم.

حدد المصدر الرسمي الذي حجب اسمه بأن نوع المواد المستخدمة هي غاز الكلورين ووصفه بأنه يُحدث تلفاُ في أجهزة التنفس عند إطلاقه في منطقة محصورة ويقود إلى الاختناق وتلف الأنسجة..
وعند النظر إلى هذا الادعاء نجد أنه يتناقض تماماً مع الطبيعة الكيميائية لغاز الكلورين، فقد تم تحديد خصائص الكلورين ووصف بأنه (غاز أصفر مخضر له رائحة مميزة تشبه رائحة المادة المبيضة وهو أثقل في الهواء بثلاثة أضعاف تقريباً، وبالتالي فهو يتجمع في المنطقة المنخفضة وهو غير قابل للانفجار إلا أنه يعزز الانفجار لمواد أخرى ويترك أثراً في اليدين ويخلف حكة) .. فكيف يقول المصدر أنه تم إطلاقه في منطقة نائية وفي ذات الوقت أن الغرض هو أن يقع ضحايا في الخلاء، فكيف يتفاعل في أجواء الخلاء المفتوحة، وفي نفس الوقت هو غاز يستخدم في المناطق المغلقة، وعليه فلا يعقل أن يكون له تأثير في المناطق النائية في السودان.

أما الاستخدام للمرة الثانية، فقد أشار المصدر إلى أنها في العاصمة الخرطوم، ولم يحدد نطاقاً للمكان ولا زمانا تقريبا ولا حتي متأثرين به.

هذا عن الصحفيين، أما بيان وزارة الخارجية الأمريكية فقد أشار إلى ذات الوقائع المذكورة في الصحيفة، وأضاف إليها أن السودان لم يمتثل لما تلزمه به اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
وبالنظر لهذه الفرية كذلك نجد أنها تتصف بالإبهام، فلا الحيز المكاني ولا النطاق الزماني تم تحديدهما، أما عن عدم امتثال السودان لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية والذي هو طرف فيها.
وكما أشار بيان الناطق الرسمي لوزارة خارجيتنا بأن الولايات المتحدة تجنبت إخطار المنظمة الدولية بهذا الإدعاء وكان عليها أن تحيطها به إن رأت أن السودان لم يمتثل للاتفاقية. ومرة أخرى نجد أن الادعاء لا يقوم علي ساق.

هذا من شأن أمريكا، فماذا عن سياسيينا وكتاب المقالات. ودون ذكر للأسماء أو إشارة وحتی لا نضجر القارئ نلاحظ:
تقريبا كل الذين حاولوا التأكيد علي استخدام هذا النوع من الأسلحة كانوا عالة على الرواية الأمريكية الناقصة والغامضة وزاد بعضهم تصوير مقاطع فيديو لطرف من معركة أو ما أسماه ضحايا نشاط القوات المسلحة. وفي هذه الصور لم يتذكروا أن للغاز خصائص معينة تحصره في أثره علي الناس القريبين منه وعلى الذين يطلقونه، أما على الناس فقد جاء أصحاب الادعاء بجثث محروقة وقالوا هذا هو أثر الاستخدام، وكان واضحاً أنه في لحظة الحريق يتحرك جنود من المليشيا ومدنيين كانوا قريباً من من موقع التصوير، ولم تظهر عليهم أي أعراض أو مضاعفات تبين أن غازاً ساماً قد استخدم في تلك الحالة!!

أما صورة “البرميل غير المنفجر” والناس تحول حوله وتلمسه، فلا يصلح دليلاً إلا على براءة القوات المسلحة من الفرية، وذلك لسلامة الجسم ولتعامل الناس معه بعفوية شديدة وعدم الخوف منه مما يدلل علي أنه كان غير سام ولا يحوي غازاً ساماً.
تلك هي حجتهم فما أبأسهم وما أبأسها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى