هل تخلّى الله عن المسلمين؟ (1- 3)

د. إسماعيل ساتي
مقدمة
في خضم المآسي والويلات التي يعاني منها المسلمون في بقاع شتى من الأرض، يطفو على السطح سؤال موجع، يتردد في النفس قبل أن يُقال على الألسنة: “هل تخلّى الله عن المسلمين؟”. ورغم أن السؤال يبدو في ظاهره مساساً بالعقيدة، إلا أن حقيقته تعبير صادق عن عمق الأزمة وشدة الابتلاء وتراكم الخذلان والبحث عن إجابة تمنح الروح تماسكاً وتوقظ الوعي من الغفلة.
إننا لا نطرح هذا السؤال لنشكك، بل لنجيب عليه. لا لنرسخ روح اليأس، بل لنبحث عن مكامن الخلل ونفتح نوافذ الأمل. فمنهج القرآن قائم على السؤال والجواب والتفكر والتدبر والاعتبار والتغيير.
من هنا جاءت هذه السلسلة التحليلية في ثلاثة أجزاء تتناول المسألة من زوايا ثلاث: الإيمانية والتاريخية والسياسية:
وفي هذا الجزء الأول: هل تخلّى الله عن المسلمين؟ نقارب السؤال من منظور إيماني وسُنني، نبحث في الآيات والأحاديث، ونفند الأسباب التي تضعف علاقة المسلمين بربهم، ونعرض للسُنن الإلهية التي لا تتخلف.
وفي الجزء الثاني: من الداخل ينهزم المسلمون – السنن الغائبة والواقع المنكسر، نحلل العوامل الداخلية التي تُضعف الأمة، من تنازع وفرقة وفساد وتبعية وتقصير في الأخذ بالأسباب، ونبين كيف أن الهزيمة تبدأ حين تُهزم النفوس داخلها.
أما في الجزء الثالث: لماذا يُمنع المسلمون من امتلاك قوة الردع؟ فنغوص فيه في السياسات الدولية والعقائد الغربية القديمة المتجددة، ونحاول تفكيك أدوات الحصار والتقييد التي تُمارس على المسلمين حتى لا يعيدوا بناء قوتهم واستقلالهم.
هذه السلسلة ليست خطاباً تعبوياً ولا تأريخاً للألم، بل دعوة للعقل المسلم أن يفهم سنن الله ويتحرر من الانهزامية ويتملك أدوات النهضة بإيمان فاعل وعمل راشد.
“إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”
إن السؤال: “هل تخلّى الله عن المسلمين؟” يبدو صادماُ، لكنه في حقيقة الأمر سؤال يعكس ألماً لا اعتراضاً، ويعبّر عن وجدان شعوب مسلمة تواجه الحصار والقتل والاضطهاد دون أن ترى بصيص نصر قريب. ولعل تكرار مثل هذا التساؤل يحتم علينا التوقف لنتفكر ونحلل، لا لنلوم أو نبرر بل لنفهم.
إن الإجابة تتطلب مقاربة متوازنة بين:
• الإيمان بسُنن الله الثابتة في نصرة عباده.
• إدراك القوانين التاريخية والاجتماعية.
• تحليل الواقع السياسي الدولي المعقد.
أولاً: من المنظور الإيماني – هل تخلّى الله عن المسلمين؟
والإجابة: كلا، حاشاه سبحانه وتعالى، فالقرآن مليء بالآيات التي تبين أن الله مع عباده المؤمنين إذا هم أقاموا أمره، ونصروا دينه، وتحركوا في الأرض بما يرضيه.
“وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ”
“إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”
“وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”
لكن هذه النصوص تربط النصر بأسباب وشروط:
• إيمان صادق.
• إصلاح داخلي.
• أخذ بالأسباب.
كما أن البلاء لا يعني الهجران، بل قد يكون اختباراً:
“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”
السؤال إذاً معكوس وينبغي أن يُقرأ هكذا: هل تخلى المسلمون المعاصرون عن الله؟ هل هجروا شريعته وعدله ولم يلتزموا التعاون فيما بينهم والأخذ بالأسباب؟
ثانياً: السنن الإلهية في الواقع الإسلامي:
1) سنة التغيير من الداخل
“إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”
فسنة الله تقتضي أن لا يتغير حال قوم إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من عقائد وأخلاق ونظم وقيم، وهذا يجعلنا مسؤولين لا ضحايا.
2) سنة الابتلاء والتمحيص
“وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ”
ففي لحظات الشدة يظهر معدن الأفراد والجماعات، ويفرز الصف بين صادق ومنافق.
3) سنة التداول الحضاري
“وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”
فالهزيمة والنصر لا يدومان لطرف دون آخر، وإنما هي أدوار تتبادلها الأمم وفق ما تقدمه من أسباب.
ثالثاً: تحولات كبرى عصفت بالعالم الإسلامي (سنة التدافع)؛
لا بد لفهم الواقع من استعراض التحولات الجيوسياسية التي عصفت بالعالم الإسلامي منذ نهاية الحرب الكونية الثانية:
• تفكك النهضة الحضارية الإسلامية التي سبق أن قادتها الخلافة العباسية والأموية والعثمانية والأندلسية.
• تفكك الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى وبروز أنظمة وطنية (ملكية، عسكرية، قومية).
• بروز الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، واصطفاف الدول الإسلامية خلف المعسكرين.
• إنشاء إسرائيل في 1948 كجسم وظيفي استيطاني استعماري.
• انتشار الاستبداد وقمع الحريات.
• اندلاع الحروب بالوكالة.
• انفراد أمريكا بالهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
• صعود الحركات الإسلامية وما رافقها من تحديات داخلية وخارجية.
• توقف الاجتهاد وهيمنة التقليد.
كل هذه عوامل أسهمت في رسم المشهد الحالي، مما يعني أن المسلمين هم من تخلوا عن أدوات النهوض ولم تتخل سنن الله الكونية عنهم.
إن الله ينصر عباده إن هم تخلوا عن انكسار دواخلهم واستمسكوا بعرى النصر. وهو ما سوف تستعرضه في الجزء الثاني من هذا المقال.