رأي

وزارة الثقافة والإعلام: شكايات ثقافية يجري ترحيلها لما بعد الحرب

دكتور محجوب محمد محمد أحمد

المتفق عليه، والثابت تاريخياً، أن الثقافة في السودان، ما عرف جسمها ومنذ الاستقلال استقراراً أبدا، بحيث تبدو الثقافة كأنها جسم لاصق، يطير في الهواء لخفة وزنه، ثم ما يلبث أن يلتصق هنيهة بأي جسم راكز، ثم يواصل الطيران من جديد؛ حيران لايعرف له هدفاً.

لم يتبدل الحال الثقافي كثيراً بمجيء العام 1989م، على عكس النظام السياسي، الذي مرّ منذ ذلك العام بانتقالات كثيرة، وتغيرت فيها صيغة الحكم بما يمكن أن يوصف بإتجاهها نحو الإنفراج والمشاركة والإستقرار. ورغم أن بوصلة النظام السياسي أساساً اتجهت نحو إرخاء قبضة المركزية الحاكمة، وإدخال الأطراف والهامش والولايات في دولاب الحكم والمشاركة؛ ورغم أن كل ذلك مما يعد إيجاباً في محصلته النهائية، إلا أن الشأن الثقافي ليس كالشأن السياسي، وتلك قضية معروفة، لأن الشأن السياسي هو مركز القضايا الساخنة، ومدار الحاجات الإنسانية الأساسية، الآنية والمتحولة، التي تبدأ ـ على صعيد الثروة ــ من كسرة الخبز وشربة الماء وجرعة الدواء وحق التعليم، وتنتهي بأماني النفس الإنسانية التي لاتحدها حدود. والشأن السياسي ـ على صعيد السلطة ـ هو المسؤول عن تغذية حاجة الإنسان للإنتماء إلى الجماعة؛ وصولاً إلى طمع الإنسان وسعيه لحكم الغير، وبسط السيادة والهيمنة.

لذلك زاد وضع الثقافة تعقيداً في الفترة الطويلة التي استغرقها تدرج الانتقال إلى صيغة الحكم الفيدرالي، وما تطلبه ذلك من إنتقال التبعات والإستحقاقات والمسؤليات إلى الولايات، بحيث وجدت كل ولاية نفسها غارقة في دفع فواتير انتقال نصيبها من (السلطة ) إليها، قبل أن تتمكن من تفجير واستغلال نصيبها من (الثروة). أما في فترة التغيير التي أعقبت زوال حكم الإنقاذ؛ والتي لم يكتب لها الثبات في كل القضايا، فقد انتقل الحال الثقافي من (التعقيد) إلى الوضع (الحرج) دون ما إسعاف، ويخشى في فترة الحرب، التي يعيش الوطن جراحاتها، أن يكون في حالة (الاحتضار) دونما انتباه إليه.

عموماً في فترات (تزاحم) الإستحقاقات والفواتير، تكون فاتورة (الثقافة) هي آخر الفواتير التي تصل إلى شباك الدفع، إتحادياً وولائياً. إلا أن أمر (الثقافة) خادع. إذ يبدو (ظاهرياً) أن فاتورة الثقافة (باردة)، وأقرب ماتكون إلى (الشيك آجل الدفع)؛ لكن عدم تقديمها قبل ـ أو ضمن ـ الأولويات الضاغطة يورث المجتمع ـ أي مجتمع ـ معضلتين: الأولى أن المجتمع بدون إستمرار (زيت الثقافة)؛ يجد نفسه في احتكاك خشن مع كل قضاياه. والثانية أن المجتمع بانقطاع تيار الثقافة يجد نفسه يتعامل مع قضاياه بذاكرة معزولة عن ماضيه وخبراته الحياتية.

تفسير ماسبقت الإشارة إليه بسيط: فالثقافة حتى بالفهم العادي، لاتخرج عن كونها استمراراً لدفع السلوك البشري تجاه محيطه وبيئته، ليكون سلوكاً (إنسانياً). وهي بالفهم (العقيدي)، تتجاوز حتى السلوك (الإنساني) تجاه محيطه وبيئته؛ ليكون( سلوكا ًربانياً )، أي مستمدّاً من (الهدي الرباني). وبالتالي حين يغيب (المدد الثقافي)؛ يرتد السلوك (الإنساني) تجاه كل الواقع والمحيط والبيئة، ليكون (بشرياً) أو دون ذلك.

لذلك من السهولة أن تجد تفسيراً لكل مفردات الإختناقات /الإحتقانات /الإحتكاكات/ الإنتكاسات، أو حتى الحروب التى تغشى المجتمعات، رغم أن هذه المجتمعات (ظاهرياً) تحرز تقدما ً فى مستويات (حياتية) مختلفة ومتفاوتة. والنتيجة اللازمة لكل المقدمات التى سلفت؛ هى أن تأجيل (الإستحقاق الثقافى)، لا يكون دليل عافية، ولا يشير إلى حكمة، بأى حال من الأحوال؛ فرجال المطافيء ـ عادة ـ لا يستهدفون بمائهم المندفع ألسنة اللهب، وإن كان الأمر يبدو كذلك، لكنهم يغمرون الجسم المحترق نفسه بالماء، ليتوقف توالد ألسنة اللهب تلقائياً. وفى أحايين كثيرة، لا يكون بكاء الإنسان على شئ عزيز احترق؛ بل يكون على احتراق أِشياء أخرى عزيزة، تسبب إحتراق الشئ العزيز الأول فى ضياعها، وبالتالى يصدق المثل السودانى (ميتة وخراب وديار).

وبجانب الإشكالات الديوانية التي تواجه الثقافة، وهي الناتجة عن المسافة الفاصلة بين ما هو (إتحادى) وما هو (ولائى)، مع عقبة (المراحلة التاريخية) التى يمر بها السودان، وعداً أو إحباطا؛ بجانب كل ذلك تنهض عقبة ديوانية أخرى، هي تتبيع الثقافة من وزارة إلى أخرى، على امتداد العهد الوطني كله؛ فمن الاستعلامات والعمل، إلى الثقافة متحدة مع الإعلام، ثم مثلثة مع الإعلام والشباب والرياضة…. إلخ. وبرغم ما يبدو من إعوجاج هذا الأمر عند النظر المجرد إليه، وأن الحكمة كانت تقتضي إفراد وزارة للثقافة، لكن حين لاتجد الثقافة ما ترجوه من الدولة والمجتمع، وحين تعجز الثقافة منفردة عن العناية بنفسها، تبدو هذه التقسيمات غير المنطقية نافعة في ظل ظروف معينة؛ فوزارة تضم الثقافة مع السياحة، أو الثقافة مع الرياضة، كان يمكن أن تقود إلى شراكات (ذكية)، ولكن تلك قضية أخرى.

المهم هنا أن للثقافة تفريعات وأقساماً كثيرة كأجناس. ولها أيضاً تقسيمات رسمية (إدارات ـ هيئات ـ أقسام ـ مجالس …..إلخ). بمعنى أن الثقافة (بالمعنى الإصطلاحي) تشمل التنظير والفكر والشعر والقصة والرواية وباقي الأجناس الأدبية:المكتوبة والمحكية، بجانب التشكيل والمسرح والسينما والاستعراض والفنون الأدائية الفولكلورية والشعبية والمعاصرة وغيرها، دون دخول في متاهات المصطلحات والتعريفات. كما أن وزارة الثقافة والشباب والرياضة ـ حتى العام 2010م على الأقل ـ كانت تشمل كل ما سبق، إضافة إلى المناشط الرياضية ومناشط الشباب وقضاياه، هذه الخدمة المتضخمة بشقيها الإبداعي والإداري هل تنهض في صالح الثقافة أم ضدها ؟ هل هي زيادة مسؤوليات ونذير بالفشل، أم هي زيادة فرص ووعد بالنجاح؟

للإمساك بخيط هذه القضية؛ يمكن إيراد مؤسسة (المسرح القومي) أنموذجاً بقصد التركيز فقط على نقطة واحدة ـ في هذه المرحلة من المقال ـ ثم العودة إلى النقاط الأخرى لاحقاً. النقطة المراد التركيز عليها هي فقر الميزانيات الجاثم على كاهل (المسرح القومي)؛ رغم وجوده وسط كيانات ومؤسسات نظيرة له، وتشكَّل معه جسم (إدارة الفنون الإستعراضية). هذه الأجسام هي الفنون الشعبية والإستعراضية (الأكروبات) والعرائس والموسيقى وغيرها. ورغم أن الأسئلة المحرجة يمكن أن تتوالى، من شاكلة: ألم يكن المسرح القومي منتعشاً خلال فترات من تاريخه؟ مالذي ألمّ به؟ لكن حتى لاننصرف عن نقطة التركيز يأتي السؤال: ألا يمكن لكل واحدة من المؤسسات المشار إليها، أن تدار بعقلية إستثمارية، علماً بأن بعضها يجوب أنحاء الأرض ويجد قبولاً واسعاً، وبعضها الآخر مما يحبه الشعب السوداني، كالغناء والموسيقى والفنون الشعبية ؟ ألا يمكن (خلق شراكات ذكية داخلية) بين هذه المؤسسات؛ بحيث تعين بعضها، لتخرج جميعاً ـ وعلى راسها المسرح القومي ـ إلى شواطيء الإنطلاق والنجاح ، بدلاً من أن تكون جميعها غارقة في وحل الإمكانيات وعجز النهوض ؟ إذا كانت إجابة الأسئلة السابقة بنعم، ماهي شروط النجاح وضمانات التحقق؟ تلك أسئلة شائكة جديدة تستحق محاولة الإجابة عليها.

ربما كان المَخرَج يتمثل في وضع خطة إستراتيجية واحدة لكل فروع الإدارة، تشمل مراحل الإقلاع والإرتفاع ثم الإستواء في التحليق، تماماً كالطائرة. الفارق الوحيد أن طائرة المسرح والفنون لا يرجى لها الهبوط. وبالتالي فالأمر يحتاج إلى إختيار الطائرة الأولى من (سرب الإدارة) التي ستبدأ الإقلاع، ثم لابد من تحضير مستلزمات الإقلاع، من وقود ومدرج وإجراءات سلامة وإختيار سليم لطاقم الرحلة .
هل تكون الفنون الشعبية ـ في حالتنا هذه ـ هي الطائرة الأولى المرشحة للطيران؟ أم تكون (الأكروبات) مثلاً؟
النقطة الثانية التي يجب توفرها هي روح الفريق الواحد بين العاملين في كل فروع الإدارة، مع الوعي التام بأن دور كل فرع من الإدارة سيأتي في أوانه من الخطة الإستراتيجية، مع العمل على توزيع عادئدات النجاح ـ المادية والمعنوية ـ على جميع منسوبي الإدارة بفروعها، ولكن بنسب متفاوتة قليلا، ًبحيث تميل لصالح أفراد الفرع الذي جرى استثماره في الزمان المعين من الخطة الاستراتيجية.

كل ما سبق يتطلب الميزانيات الأولية، التي تسخر لخدمة الهدف المنتظر، مع قدر واثق ووافر من التفويض والتمكين في صرف هذه الميزانيات، باتباع الصيغ المالية المرنة، وهذا لا ينفي التزام الضوابط المالية والمحاسبية، علماً أن التجربة في الإدارة الحديثة أثبتت ـ في كل العالم ـ أن سلامة المال العام، لاتكون مضمونة بسبب إجراءات الصرف ،ولا بسبب قوانين الردع؛ وإنما بضمان مشاركة العاملين في إدارة مال المؤسسة، كل حسب مسؤولياته وطبيعة مهامه، وذلك عبر الإسهام في التخطيط وتحديد الأهداف والمشروعات وأولويات الصرف، بحيث يتطابق التنفيذ الفعلي والصرف المالي، في كل فترة زمنية معينة، مع التخطيط الذي جرى الإتفاق عليه، وبالتالي يلعب المسئول عن المؤسسة، دور (منسق) صرف الميزانيات، في آجالها ومواعينها المحددة، وليس دور (القابض) على الميزانيات، والمتحكم فيها بالفهم التقليدي.

بعد نقطة التركيز التي سلف الحديث عنها ، يمكن العودة ـ وفي مساحة أخرى للكتابة ـ إلى نقاط أخرى كثيرة؛ تتعلق بأجناس الثقافة ومؤسساتها القائمة عليها، راهنها والمعادلات التي تنتج هذا الراهن، مع نظرة وأمل في إيجاد معادلات أخرى ، تعين علي الخروج إلى دوائر الإنجاز، والأمر في نهايته يستحق إسهام المهتمين في إدارة هذه الحوارات الإيجابية .

مقالات ذات صلة

2 تعليقات

  1. شكرا جميلا دكتور محجوب لقد تناولت موضوعا مهما ولكن تأجيل استحقاقات الثقافة يعني تأجيل بناء الإنسان، وهو الأساس الذي تبنى عليه كل تنمية حقيقية. لذا، يجب أن تكون الثقافة في قلب أي خطة وطنية تهدف إلى نهضة شاملة ومستدامة

    1. تسلم (د. السر ) على الاهتمام والتفاعل. أتفق معك تماماً. الإنسان هو الغاية، وفي نفس الوقت هو الفاعل بتوفيق من الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى