تشكيل حكومة تكنوقراط، هل تحل الأزمات التي تعصف بالوطن؟

د. إسماعيل ساتي
ظللنا نطالب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول البرهان، بتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، وقبل ذلك ظننا أن البرهان بعد الإجراءات التصحيحية في 25 أكتوبر 2021 سوف يحزم أمره ويعلن عن حكومة جديدة كلياً، تعيد للسلطة التنفيذية وهجهها وسطوتها وقدرتها الكادرية.
وما بين (ظننا وظللنا) مرت الشهور والسنون ولم تجد ظنوننا وانتظاراتنا استجابة !
والآن، وقد دنت السانحة بعد انتصار القوات المسلحة وداعميها ومستنفريها، نحو تشكيل حكومة كفاءات وطنية، نود التنبيه إلى أن مجرد تشكيل حكومة مهنية محايدة لن يحل المعضلات والأزمات التي تعاني منها البلاد، وإن حدث هذا – لا سمح الله – فسوف يصاب الناس، بالإحباط من حكوماتهم للمرة الألف.
دعونا نفترض أن البرهان شمَّر عن ساعديه، ورفع سيفه البتار في وجه من يحومون حوله ويضغطون من أجل تشكيل حكومة ذات طابع سياسي معين، لنفترض أنه ورغم إرادتهم قام باختيار رئيس للوزراء ومعه حكومة تكنوقراط مستقلة، فهل سوف يكون ذلك كافياً لحل مشكلاتنا التي تعصف بالبلاد كما لم يحدث من قبل؟
من يظن أن الحل في حكومة تكنوقراط وحسب، فهو للأسف واهم.
إن مجرد اختيار لرئيس وزراء ولحكومة مستقلة لن يحل المسألة، ببساطة لأن هؤلاء مهما كانت قدراتهم لن يستطيعوا أن يأتوا بعصا سحرية يمكن أن يشقوا بها بحر الفوضى والانهيار الكبير الذي أصاب الدولة ومؤسساتها بصورة غير مسبوقة.
فما هو الحل؟
الأهم من ذلك وقبل أن يتم اختيار رئيس لمجلس الوزراء ومعه أعضاء حكومته، أن يتم التوافق على مرحلتين من عمر هذه الحكومة التي تنتهي بنهاية الفترة الانتقالية.
خلال المرحلة الأولى، من الضروري التوافق على النتائج المرجوة من هذه الحكومة خلال الأشهر الستة الأولى من عمرها، والتي قد تتضمن على سبيل المثال وليس الحصر: إنقاذ حياة الناس واستعادة الدولة، إيقاف النزيف والتأسيس لمستقبل آمن، وضع خطة استنفار للشباب للانتقال من مرحلة المجاهدة العسكرية إلى المجاهدة المدنية، توفير الخدمات الأساسية للمواطنين كالكهرباء والماء والرعاية الصحية والتعليم وتوفير سبل العيش الكريم لهم، كسب ثقة الناس وإطلاق بداية جديدة، تأمين الموارد اللازمة لإعادة الإعمار، وتوحيد المجتمع بعد انقسامه.
تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية من عمر الحكومة والتي تتضمن وضع خطة اقتصادية إسعافية لا تتأخر نتائجها عن ما سوف يتبقى من عمر الفترة الانتقالية، بوضع اسس لبرنامج وطني طويل الأمد ينهض بالبلاد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أن يشترك في وضع هذا البرنامج الأدمغة وأصحاب الخبرات السودانيين، مع العلم أن المرحلتين الأولى والثانية قد تتداخلا.
*جدارات أساسية لرئيس الوزراء*
وبعد أن تُوضع ملامح هذا البرنامج على الورق ويتم التوافق حوله، يتم وضع تفاصيل كاملة تبين جدارات رئيس الوزراء المقبل ووزارئه وفقاً لتخصصات كل وزارة. هذه الجدارات سوف تشكل أسس وقواعد اختيار هذه الشخصيات الهامة والتي لا يجب أن يحيد عنها صاحب القرار، مع التأكيد على ضرورة أن يكونوا من أصحاب الكفاءة الإدارية في العمل العام والخاص وليسوا من الساسة المعروف للعامة توجههم السياسي. ولا ننسى أن نذكر بأن لا يتم اختيار رئيس الوزراء وفقاً لمحاصصات أو لترضيات سياسية أو حزبية أو جهوية أو قبلية، وأن يكون معيار الأداء وفقاً لقدراته التي سوف تحددها الجدارات المذكورة لاحقاً.
ونذكر من هذه الجدارات ما يلي:
• أن يتمتع بخبرة تنفيذية رفيعة وكفاءة في إدارة الملفات الاقتصادية والتنموية، وقدرة على صياغة وتنفيذ السياسات العامة بفعالية.
• أن يتحلى بصفات القائد وبوجود رؤية واضحة لمستقبل البلاد ووعي بأولوياتها التنموية مع تمتعه بكاريزما تساعده على إشراك وتحفيز السودانيين تجاه تلبية متطلبات تحقيق الرؤية، وأن يتحلى بمهارات اتصال رفيعة (خاصة في الخطابة والتعامل مع الإعلام)، مع القدرة على إدارة الأزمات وعلى كسب ثقة المواطنين.
• أن لا ينتمي لحزب سياسي بصورة صريحة مما يجعله مقبولاً لدى معظم الأطراف باعتباره شخصية “غير مستفزة سياسياً”، مع القدرة على العمل مع الجميع دون انحياز.
• أن يتمتع بالنزاهة والمصداقية وبسمعة نظيفة وموثوقية، مع سجل خالٍ من الفساد أو العلاقات المشبوهة، وأن يكون صاحب دين وخلق.
• أن يكون له القدرة على التفاوض والتنسيق بين مكونات سياسية ومجتمعية متباينة.
• أن يكون مدركاً لتعقيدات السودان السياسية والاجتماعية وأن يتمتع بالفهم العميق للسياق الوطني والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة.
• وأخيراً يجب أن يكون رئيس الوزراء ذو سمعة دولية جيدة ومهارات دبلوماسية تساعد على بناء علاقات خارجية خاصة لدى المنظمات العالمية، كما يجب أن يحظى بفهم القضايا الجيوسياسية للسودان.
قد يبدو من كل ما تقدم أن اختيار رئيس للوزراء هو أمر بالغ التعقيد وأنه من شبه المستحيل إيجاد شخص واحد كـ “سيوبرمان” تتوفر فيه كل هذه الجدارات. لكن في الواقع، لا يُطلب توفر كل الجدارات بنسبة 100٪ في شخص واحد، بل تُرتب حسب السياق السياسي والوطني الراهن، ويُركز على الأولويات الأكثر إلحاحاً في أيامنا هذه.
فما هي الأولويات الواقعية التي يتم الارتكاز عليها عند اختيار رئيس جديد للوزراء؟
*أولويات معايير الاختيار*
هناك صفات أساسية أربعة يجب عدم التنازل عنها عند اختيار رئيس للوزراء، وهي: النزاهة والحيادية والقبول (محلياً وإقليمياً ودولياً) والقيادة الحكيمة والواعية خلال المرحلة الانتقالية.
إذا توفرت هذه الصفات الأربع الأساسية، فالبقية يمكن دعمه فيها بفريق قوي ومؤسسات مساندة.
*هل هذا حديث مثالي؟*
كل ما قيل سابقاً هو أمر جيد شكلاً، ولكن كيف يتم اختيار المرشح؟ هل يتم عبر مقابلات، أم بعقد اختبارات قياس جدارات وسمات شخصية، أم بتقييم خبراته السابقة، أم بوضعه في مختبرات مراكز تقييم وجلسات محاكاة،،، أم بكل ما ذكر؟
*مراحل الترشيح والاختيار:*
أولاً يجب إعداد بطاقة وصف وظيفي بناءً على البرنامج المعد سلفاً وتحدد المعايير المطلوبة بدقة. ثم يتم بعد ذلك فتح الباب للترشيحات من كيانات متفق عليها على أن يُقرن الترشيح بسيرة ذاتية تفصيلية للمرشح يبين فيها رؤيته للمرحلة الانتقالية.
يتم بعد ذلك عمل تصفية أولية للمرشحين تقوم به لجنة متخصصة (غير سياسية) بمقارنة السير الذاتية بمعايير الاختيار المعدة سلفاً.
أما المرحلة الثالثة فتشمل جلسات مع المرشحين الذين تم اختيارهم خلال التصفية الأولية لتقييم جداراتهم الفعلية، ومن ذلك: عقد مقابلات سلوكية عميقة (Thorough Behavioral Interviews) مع كل فرد على حدة – تنظيم جلسات محاكاة لأزمات واقعية (مثلاً: ماذا ستفعل إذا توقف الدعم الدولي؟ أو إذا اندلعت مظاهرات ضد سياسات الحكومة؟) – تنظيم اختبارات سمات القيادة والشخصية لقياس القدرة على القيادة في الأزمات ومستوى الذكاء العاطفي والنزاهة) – وأخيراً يُطلب من المرشح إعداد دراسة حالة (Case Study) يقترح فيها (على سبيل المثال) خطة لإعادة الإعمار خلال المرحلة الانتقالية.
يتم بعد ذلك رفع أسماء لثلاثة مرشحين إلى مجلس السيادة الانتقالي الذي يقوم باختيار المرشح الأنسب بالتوافق عبرعملية تصويت توافقي.
هذا والله ولي التوفيق