تقارير

حول الجريمة الدولية بسرقة الآثار السودانية

د. إيناس محمد أحمد

يُعد السودان من الدول التي وهبها المولى عز وجل حضارة عريقة وموقعاً جغرافياً متميزاً، فهو بوابة أفريقيا من جهة الشرق ، وله إطلالة مؤثرة و استراتيجية على البحر الأحمر، ووهبه الله نهر النيل سليل الفراديس والذي جمع النيلين الأبيض والأزرق في ملتقى النيلين في مشهد نادر أبهر العالم أجمع لا يوجد في أي مكان على وجه الأرض.

لذلك كله ولعدة عوامل أخرى كان السودان مهد حضارات إنسانية عريقة، فطمع فيه الغزاة وتعرض للغزو و الاحتلال في كل عصور التأريخ القديم والحديث وفي كل مرة كانت إرادة الأمة السودانية هي المنتصرة بإذن الله. وسجل التأريخ العديد من بطولات وانتصارات الشعب السوداني الأبي ، مما جعل أرض السودان مليئة بالآثار والمواقع الأثرية التي تحكي حضارة الأمة السودانية منذ القدم.

وقد عانت البشرية على مر العصور من ويلات الحروب ، ولم تتوقف المعاناة عند الموت والتشرد والنزوح واللجوء والخراب والدمار وهدم البنى التحتية وضياع مكتسبات الأمم بل امتدت الى إتلاف التراث الإنساني والثقافي ، وتدمير المواقع الأثرية وتخريب المتاحف وسرقة وتهريب القطع الأثرية النادرة ، وما يشكله ذلك من ضياع لذاكرة التاريخ وكنوز الأمة وفقد سجلها التاريخي ومراحل تطورها عبر الحقب الزمنية المختلفة.

قبل فترة نشر خبر مؤسف يتناول عمليات النهب والسرقة التي تعرض لها متحف السودان القومي ، والمستودع الخاص الملحق به والذي يحوي كنوزاً من الآثار النادرة ، وعدد من المتاحف السودانية في مواقع أخرى ، حيث أظهرت مقاطع فيديو نشرت في يونيو 2023 لجنود المليشيا وهم يتجولون داخل المتحف القومي ويعبثون بمحتوياته، ويقع هذا المتحف بالقرب من ملتقى النيلين الأزرق والابيض في موقع يشكل قيمة سياحية عالية في الخرطوم ، وقد تم افتتاحه في العام 1971م في عهد الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميري ، بعد ما تم تأسيسه في العام 1904م في جامعة الخرطوم ثم نقل بعد ذلك لموقعه الحالي.

يحتوي المتحف القومي على الكثير من الآثار السودانية من تماثيل ومنحوتات و زينة وآنية مصنوعة من الحجر وأخرى من النحاس والجلد و البرونز و الحديد ، وادوات خشبية ولوحات أثرية وأثاثات للملوك ومخطوطات أثرية ، تشكل الحقب المختلفة منذ العصور الحجرية مروراً بالمسيحية والنوبية حتى الإسلامية، كما تم تخريب مباني القصر الجمهوري القديم بما له من قيمة تأريخية، و سرقة المتحف الحربي ومتحف بيت الخليفة ومتحف الانثروبيلوجيا ودار الوثائق القومية، ومتحف مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور ، واتخذت المليشيا من مباني المتحف مقراً إداريا لقواتها.

تصديقاً لذلك فقد أظهرت الاقمار الاصطناعية صورا لمجموعة من الشاحنات الكبيرة محملة بالآثار السودانية تتجه نحو دولة جنوب السودان ، وطالبت إدارة المتحف القومي و مركز بحوث الثقافة والتأريخ والحضارة السودانية من حكومة دولة جنوب السودان المساعدة في تتبع تلك الشاحنات والقبض علي المجرمين الذين يحاولون التسلل الى دولة جنوب السودان ، والتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام السودانية وسفارة السودان بجوبا بغرض تنسيق الجهود الرسمية والشعبية لاسترداد الآثار السودانية ، لاسيما بعد النداء الذي أطلقته اليونسكو عقب ظهور بعض القطع الأثرية على مواقع للبيع عبر الإنترنت، هذه القطع جمعت من عدة مواقع داخل السودان من الشهيناب وخور ابوعنجة وسنجة ومواقع أخرى.

وقطع من فترة نبتة ( كوش الثانية) ومقتنيات من جبل البركل والكدرو ونوري وحضارة مروي ومواقع النقعة والمصورات والبجراوية وصولاً لفترة ما بعد مروي ثم الفترة الإسلامية.

محتويات هذه المتاحف هي حصيلة جهود وتأريخ طويل من البحث الأثري لعلماء الآثار ولبعثات أثرية كثيرة امتدت لمئات الأعوام ، والكثير منها مدرج على قائمة التراث العالمي.

العالم يحمي الآثار:

لما كانت الآثار والمواقع الأثرية تشكل سجلا تأريخيا لحياة الأمم وإبداعاتها على مر الزمان وهي إحدى مقومات الهوية الحضارية الإنسانية كان لابد من الحفاظ عليها عالميا ، لاسيما بعد ما خلفته الحرب العالمية الثانية من دمار وخراب طال الكثير من المواقع الأثرية ، لذلك حاول المجتمع الدولي الحد من الاعتداءت التي تطالها أثناء الحروب والنزاعات وفرض إجراءات لحمايتها بدأت بإبرام اتفاقية باريس عام 1815م وقانون ليبرا عام 1863م ، ثم اتفاقية الحماية الدولية للآثار للعام 1885م ، وتطورت الحماية في اتفاقية لاهاي وفي اللوائح الملحقة بها للعام 1899م ، واتفاقية لاهاي 1907م حيث نصت مادة 56 على ضرورة ملاحقة المعتدين على الممتلكات الثقافية والمواقع التأريخية والآثار ، ثم اتفاقية واشنطن للعام 1935م ، والتي اقتصرت على الحماية الاقليمية للآثار ، وميثاق(روريخ) ، والذي سمي على اسم العالم الروسي (نيقولاس سي روريخ ) والذي كان أول من دعا الى حماية المؤسسات الفنية والعلمية والآثار والذي عقد في 15 أبريل 1935م .

ثم توجت الجهود الدولية بقيام منظمة التربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو) والتي تأسست في 16 نوفمبر 1945م ومقرها الرئيس باريس ، وتهتم بالمواقع الأثرية والتراث العالمي وحمايتها ضمن أهدافها ومهامها.

وبناء على اقتراح قدمته هولندا بإقرار اتفاقية لاهاي مع لائحة تنفيذية لها وبرتوكول إضافي في 14 مايو 1954م ، بشأن الحماية القانونية للممتلكات الثقافية ، وبعد خمسين عاما من إقرار الاتفاقية دخل البروتوكول الثاني حيز التنفيذ في 26 مارس 1999م، وينحصر هذا البروتوكول فقط على الدول الأطراف الموقعة على اتفاقية لاهاي 1954م ، ويقر مبدأ الحماية المعززة للأماكن الأثرية والثقافية. مع الأخذ في الاعتبار التطور الذي لحق بالقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي وقانون التراث الثقافي .

بالإضافة إلى البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف الأربع للعام 1977م ، وبعض المواد المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية والآثار .

نجد أن تعهدات والتزامات الدول في زمن النزاع المسلح تجاه الممتلكات الثقافية ، يتمثل في الامتناع عن استخدام المتاحف والمواقع الأثرية والممتلكات الثقافية لأغراض عسكرية أو إدارية تعرضها للتلف أو التدمير ، والامتناع عن توجية أي اعتداء عليها ، وتلتزم كذلك الدول بالعمل على رقابة وحماية الأعيان الثقافية .

لذلك سعى المجتمع الدولي الى تمييز الأعيان المدنية ومنها المتاحف بعلامات مميزة من أجل تيسير التعرف عليها لذلك وضعت اتفاقية لاهاي 1954م شعارا مميزا يتمثل في درع مدبب من الأسفل ومكون من قطاعات منفصلة ذات لون أبيض وأزرق ويوضع بواسطة السلطات المختصة بوضع الشعار في مكان واضح ، واهتمت بذلك منظمة الصليب الأحمر الدولية في حمايتها للأعيان المدنية.

كما عقدت عدة مؤتمرات بغرض حماية الآثار والمواقع الأثرية والمتاحف ، حيث عقد مؤتمر البندقية في العام 1970م ، وفي نفس العام عقد مؤتمر اكرا الدولي ، ثم مؤتمر هلسنكي 1972م ، تلى ذلك مؤتمر جاكرتا الدولي عام 1973م .

أوضحت اتفاقية 1954 بعدم التمييز في اجراءات الحماية للآثار بمعنى عدم التمييز الذي يقوم على الانتماء الوطني او الديني ، او العرقي ، و سواء كانت المؤسسات ثقافية اوتأريخية او تربوية او فنية او علمية او اثرية .

نصت الاتفاقية على انه يعتبر مرتكبا لجريمة انتهاك الممتلكات الثقافية الشخص الذي يقوم عمداً بالأفعال التالية:-

1/ الاستهداف أو الهجوم علي الممتلكات الثقافية او الآثار المشمولة بالحماية المقررة .

2/ استخدام الأعيان الثقافية لأغراض عسكرية ، او استخدام أهداف حيوية تقع جوار هذه الممتلكات في الدعم العسكري .

3/ إلحاق دمار واسع النطاق أو الاستيلاء علي ممتلكات ثقافية أو أثرية محمية.

4/ ارتكاب عمليات النهب والسرقة او التخريب للممتلكات الثقافية المحمية.

كما تنص الاتفاقية على ان تتخذ كل دولة التدابير التشريعية اللازمة لإنشاء ولايتها القضائية على الجرائم المذكورة أعلاه في الحالات التالية :-

1/ عندما ترتكب الجريمة على أراضيها .

2/ عندما يكون المتهم من مواطنيها .

3/ عندما يكون المتهم بارتكاب الجريمة موجودا على أراضيها.

كما أكد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والذي دخل حيز التنفيذ بموجب ميثاق روما في الأول من يوليو عام 2002م ، على اعتبار ان الهجمات التي تستهدف المباني المخصصة للأغراض الدينية او التعليمية او الثقافية او الفنية او الخيرية او الآثار التأريخية او المتاحف ، بشرط الا تكون أهدافا عسكرية ، يشكل الاعتداء عليها *جريمة حرب* تختص المحكمة بالنظر فيها دون المساس باختصاص المحاكم الوطنية وفقا لأحكام القانون الوطني في كل دولة.

كما يحق لدولة الأصل رفع دعوى أمام محاكم الدولة المهرب لها طلبا لاسترداد الآثار المهربة والتي وصلت اراضيها بطريقة غير مشروعة.

مبدأ استرداد الآثار:

جاء هذا المبدأ حينما طالبت دول أوربا باسترداد الآثار التي نهبها نابليون أثناء الحرب ، وطالبت بذلك في مؤتمر فينا للعام 1815م ، وكذلك نصت معظم معاهدات الصلح التي أبرمت حتى نهاية القرن التاسع عشر على التزام الدول برد الآثار التي تم الاستيلاء عليها بطرق غير مشروعة .

كذلك طالبت دول الحلفاء المانيا برد الآثار التي نهبها النازيون من خلال اعلان لندن عام 1943م ، وطالبت في مؤتمر باريس عام 1945م بالتعويضات .

أدت هذه المطالبات الي نشأة مبدأ الحق في الاسترداد للآثار المنهوبة ، ومن ثم صدور اتفاقية الأمم المتحدة لحماية الآثار وقت المنازعات المسلحة عام 1954م وبرتوكلاتها.

ثم جاءت اتفاقية 1970م لتكملة القانون وقت الحرب حول الإجراءات لمنع وحظر الاستيراد او التصدير غير المشروع ،ونقل الملكية الثقافية بطريقة غير مشروعة، واعتبارها جريمة .

تلى ذلك صدور اتفاقية معهد روما لتوحيد القانون الخاص عام 1995م ، حيث وافقت عليها اليونسكو لتوجب الرد الفوري لأي آثار تمت سرقتها او نهبها او استيرادها بطرق غير مشروعة.

نتيجة لتواتر العمل بمبدأ الاسترداد والاتفاقيات الدولية اللاحقة له ، أصدر مجلس الأمن العديد من القرارات لاسترداد الآثار المسروقة من الدول او الأقاليم التي شهدت نزاعات مسلحة أو أعمال إرهابية واعتبر استرداد هذه الآثار الزاميا على الدول ، منها القرار الشهير رقم 1483الذي طلب من اليونسكو والانتربول والمنظمات الدولية المعنية الأخرى المساعدة في تطبيق الفقرة السابعة من القرار بغرض استرجاع او استرداد الممتلكات الثقافية والآثار المسروقة للعام 2003 م ،

على المستوى الإقليمي نجد ان السودان ملتزم أيضا بالميثاق الثقافي الافريقي لعام 2006م والذي ينص على استرداد الآثار الأفريقية المهربة .

ومشاركة المنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظمة المتاحف والآثار والمواقع الافريقية ( اومسا) ، والمعهد الأفريقي للبحوث العلمية والانثرغرافية الذي أنشئ عام 1972م في موريتانيا ، والمركز الثقافي الافريقي في بوتسوانا ، ومركز الوثائق الافريقية في دولة مالي وغيرها من المنظمات .

وسائل الاسترداد تتمثل في:-

1/ الطرق الدبلوماسية ، وهي طرق ودية تتم حسب العلاقة الدبلوماسية الجيدة بين الدول تتحكم فيها الأعراف والتقاليد الدبلوماسية ، وهنا تقدم الأوراق التي تثبت ملكية الدولة للأثر ، ويتم إرجاعه بالاتفاق بين الدولتين .

2/ رفع دعوى باسترداد الآثار، وتتم وفق الإجراءات القانونية للدولة صاحبة الآثار ويبلغ الانتربول بالمعلومات والصور والوثائق ويرد الأثر بعد الحكم للدولة .

3/الاسترداد عن طريق التحكيم الدولي بين الدولتين.

في العام 2016م لأول مرة صنفت المحكمة الجنائية الدولية تدمير الآثار كجريمة حرب دولية ، وقد أصدرت حكمها بالسجن في 27 سبتمبر 2016م في دولة مالي على متهم من جماعة متطرفة لتدميره أضرحة تأريخية في بلاده كانت قد أدرجت على قائمة التراث العالمي.

وبما ان الآثار السودانية تعتبر مالا عاما ، لكل السودانيين الحق في الدفاع عنه ، لا يخضع للتقادم ولا يجوز التصرف فيها ولا يجوز التنازل عنها ، من هنا أدعو منظمة اليونسكو ، والمجلس الدولي للآثار والمواقع ، المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) ، المجلس الدولي للوثائق ، المجلس الدولي للنصب التذكارية والمواقع الأثرية(ICOMOS) ، و صندوق التراث العالمي (WHF) ، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( اليسكو) ، والمنظمة الاسلامية الدولية للتربية والعلوم والثقافة ( اسيسكو) ، وكل المنظمات الإقليمية والوطنية التي تهتم بالآثار والمواقع الأثرية، لدعم مطالبة السودان باسترداد إرثه الثقافي ورد الآثار السودانية المسروقةوالمنهوبة والمهربة ، وكذلك تتبع المتهمين وتقديمهم للعدالة ومحاكمتهم .

هذا اقل شئ يقدم لرد آثار بلادنا وللحفاظ علي هويتنا و إرث أجدادنا ،،

هذه الأرض لنا .

اللهم انصر جيشنا نصرا عزيزا ، سبحانك لا ناصر الا انت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى