ليسوا مجرد أرقام: قصة آخر الناجين من مذابح ولاية الجزيرة
المحقق – عزمي عبد الرازق
تحت ضِرام النيران والصرخات العنيفة كان عثمان، وهو طفل في العاشرة من عمره، يشق طريقه بصعوبة وسط الجثث المجندلة في قرية السريحة، يبحث عن والدته التي أفلتته بعد أن فقدت ذِراعها، بدأ يزحف شيئًا فشيئًا نحو زقاق المنزل لتجنب الموت الطائش، الأجواء دامية مأتمية، والدخان الأسود غطى على القرية بالكامل، سيتفاجأ الطفل عثمان بعد ذلك بأن والده قُتل وتم رمي جثته في الحواشة التي كان يزرعها كل عام، وأن أمه مفقودة، بينما يُذكِّره هذه اليوم الفاجع بحكايات الجدة عن جرائم الجهادية.
حكايات دامية حزينة
لقد استمر إطلاق النيران لأكثر من عشر ساعات في قرية السريحة، جنوب الخرطوم، وهى فترة كافية لإزهاق المزيد من الأرواح، خصوصاً وأن عمر شارون قائد القوة التي هاجمت السريحة وأزرق استعان بأحمد قجة، وكلاهما والغ في دماء أبناء ولاية الجزيرة، ولعل الصورة التي ظهر فيها المجرم عمر شارون وهو يمسك بلحية المهندس الطيب الطاهر، ويجره بعنف لإذلاله، كانت الأكثر تداولاً، لكنها في الحقيقة كانت تخفي تحتها ممارسات أخرى سادية جرت مع المواطنين العزل هنالك، لم توثقها كاميرات هواتف الغزاة، لدرجة أن عدد الشهداء في أزرق والسريحة، وهى قرى متجاورة تجاوز الرقم 200، بينهم 55 ماتو ذبحًا، أما الجرحى فهم ضعف هذا العدد، ولا تزال هنالك عشرات الأُسر مفقودة، من بينهن نساء يحملن أطفالهن الخُدج، وهم بالطبع ليسوا مجرد أرقام، وإنما لكل رجل قصة ولكل امرأة حكاية طويلة، وسنوات من الذكريات، وأعمارٌ من التجارب، وحيواتٌ مفعمةٌ بالضحك والبكاء والمشاعر!
في آخر رسالة كتبها عمر حماد، وهو أحد أبناء السريحة: “احتسبنا شهيدين آخرين من الأسرة في مجزرة السريحة، ليرتفع عدد شهداء الأسرة إلى 13 شهيد”، هذا الرقم يخص عائلة واحدة فقط، في قرية ضمن مئات القرى التي أقتحمتها الميليشيا خلال أسبوع، وعلى رأسها أزرق والسريحة والجنيد، والهلالية، وقد توعد قادة الجنجويد أهالي قرية سليم في محلية الحصاحيصا بذات المصير، وأيضاً التكينة التي أزهقت فيها الميليشيا في مايو الماضي 18 روحاً.
حملات انتقامية شرق الجزيرة
أما شرق الجزيرة، والتي أصبحت فيها الجرائم أكثر بشاعة، فهى من المناطق التي هاجمتها قوات التمرد بعد انحياز كيكل للقوات المسلحة، وعلى ما يبدو فإن كيكل قد أصابهما في مقتل، المليشيا وأهالي البطانة، حيث أدرك الجنجويد خسارة الجزيرة وسنار، لأن كيكل كان بمثابة القائد الميداني الأخير في الإقليم الأوسط بعد مقتل البيشي، وهذا يعني خسارة أهم القبائل المتماسكة في تلك المنطقة، ولا يحق لهم بعد اليوم أن يتحدثوا عن قومية الدعم السريع، الذي انفض من حوله أبناء تلك القبائل، ولذلك تحركت قواتهم وهاجمت رفاعة، معقل نظارة الشكرية، وهجّروا أهلها، ثم انتقلوا إلى تمبول، في عمليات انتقامية عنيفة، بقصد الثأر من كيكل، وتخويف بقية القبائل، وقد كان القتل يتم بصورة عشوائية، وفقًا لشهود عيان تحدثوا إلى لموقع “المحقق” الإخباري، حيث يقوم الجنود باقتحام البيوت بعنف وضرب الرصاص على الأجساد، وأحيانًا يسألون عن كيكل، ثم يقومون بنهب كل شيء، وهى مشاهد لم تبارح عيون فاطمة التي أجبروها على نزع الأقراط من أذنها، وقاموا بضربها بأعقاب البنادق.
قالت فاطمة، والتي تمكنت من الوصول إلى حلفا بعد ثلاثة أيام ” كانوا يقتلون الرجال ويحرقون البيوت، رأيت الجثث في الشوارع، الكثير من الجثث، لم أعدها، كنت خائفة، وهنالك جرحى يطلبون المساعدة، ورأيت بعض الجنود يصعدون على أسطح المنازل ويقومون بعمليات قنص لكل شخص يتحرك، لا أعرف كيف نجوت، لقد أنقذتني العناية الإلهية”.
النزوح إلى المجهول
من المهم الإشارة إلى أن معظم الذين نزحوا من تمبول ورفاعة توجهوا إلى حلفا الجديدة، منهم من مات في الطريق، ومنهم من وصل وهو في غاية الإنهاك والمرض، بينهم كبار في السن تورمت أقدامهم من المشي، وحتى صباح الثلاثاء فقد وصل نحو 4 آلاف عائلة إلى حلفا الجديدة، أي ما يعادل نحو 30 ألف شخص نازح من شرق الجزيرة.
في أحدث التقارير الميدانية رصد نداء الوسط تهجير لكافة قرى (النصوراب_ القراعة – المحس الرقيبة – المتمة – حداف – ودالفضل – صفيته الغنوماب) تهجيراً كاملاً وسط عمليات نهب وتعديات وترويع للمواطنين من قبل العصابات الإرهابية، وقال النداء إنه في شمال تمبول هنالك 89 قرية تم استباحتها بالكامل من قبل عصابات الدعم السريع، وبعض القرى التي لم يتم مهاجمتها تشهد موجات نزوح للمواطنين تخوفاً من إرتكاب المزيد من المجازر بحقهم، ثم أرفق نداء الجزيرة صورة للعديد من الأطفال المفقودين، بينهم الطفل “ربيع محمد حسين” من منطقة فاتحة الجعليين ريفي تمبول، وقد فقدته أسرته قبل ثلاثة أيام باتجاه ود أب شام، وكذلك الطفل محمود محمد موسى أحمد البشير، عشر سنوات، الذي نزحت أسرته من قرية البويضاء بالجزيرة إلى قرية ود الفضل، والتي هاجمها الجنجويد هى الأخرى، وكذلك الهلالية التي لا تزال تحت الحصار والتدوين العنيف، حيث تشير التقارير إلى مجزرة أخرى تقوم بها المليشيا في الهلالية، وسط نداءات تطالب بفتح مسارات لخروج المواطنين.
عام حصاد الأرواح
عطفاً على ذلك فقد أكدت شبكة “صيحة” المهتمة بالتوثيق لجرائم الميليشيا الإرهابية وجود حالات إنتحار في ولاية الجزيرة، لنساء تعرّضن للإغتصاب والتعذيب على أيدي عصابات الدعم السريع، وكشفت الشبكة عن مقتل ألف مواطن في ولايتي الجزيرة وسنار بأسلحة تلك العصابات خلال أسبوع واحد، وأشارت أيضًا إلى وصول العديد من البلاغات في بريدها عن الإنتهاكات الجنسية في عدة قرى، قامت بها عصابات الدعم السريع الإرهابية، ونوهت شبكة صيحة إلى أن أعداد الشهداء قد فاق الإحصاءات التي تقوم بها بعض المنصات والنشطاء، سيما وأن هنالك العديد من الشهداء لم يتم التعرف عليهم أو دفنهم وما تزال جثثهم ملقية على الطرقات وفي العراء بالعديد من المدن والقرى التي تم اجتياحها من قبل العصابات الإرهابية.
مأساة ولاية الجزيرة لا تزال مستمرة، وسط انقطاع شبكة الإنترنت والاتصالات منذ نحو عام تقريباً، وهو بالأحرى عام حصاد الأرواح عوضاً عن المحاصيل، حيث ارتوت الأرض بالدماء، واختلطت الحشائش بالأحشاء البشرية، وليس بوسع أراضي المشروع أن تنبت من القطن، هذا العام، ما يكفي لتغطية الحوجة من الأكفان.