رأي

ثياب الواعظين

وائل الكردي

قال الشاعر قديما (السيف ابلغ إنباءً من الكتب)، ولكن أمير الشعراء (أحمد شوقي) قد فطن إلى أن (الكلمة أعظم بتراً من حد السيف). وبهذا كشف عن جوهر التاريخ العام للنفاق والزيف بمطلع قصيدته العصماء:

برز الثغلب يوما.. في ثياب الواعظين

فمشى في الأرض يهدي.. ويسب الماكرين

في ماضٍ من الزمان وآتٍ، يظل الإنسان مفتوناً بما يظهر ويطفو، وعلى هذا الظاهر يصدر الأحكام.

وليس من ضير كبير أن يفعل ذلك العامة من الناس على كونهم تابعين لحركة الحياة وليسوا دافعين لها. ولكن كل الخطورة تكون عندما تنزع طبقات (الإنتلجنسيا) المثقفين وقادة الفضاء العام في المجتمعات والآخذين بناصية الرأي العام الجماهيري نحو استغلال انسياق العامة هذا بشبه عماء وراء الواجهات وعلى أساسه يحكمون فيكونون بذلك أدوات في أيدي من يريد تغييراً للواقع نحو صالحه إن كان فرداً أو فئة.

ومواجهة ذلك لا يكون إلا بوعي الشعوب. ولا يكون الوعي إلا بإدراك أن ليس كل من لبس العباءة هو شيخ فقيه، وليس كل من تقمص دور المأساة على المسرح هو صاحبها بحق، وليس كل لابس للمعطف الأبيض وحمل بيده مشرطاً هو طبيب. فقد يكون تحت الثياب البارزة بحسب دلالاتها من هو ماكر خبيث أو فاشل متصنع أو محب للظهور بغير ما فيه على الأصل.

ولذلك قصد الله لوعينا أن لا ينساق مع ما يراه على الأسطح، فسطح البحر يحمل زبداً طاغياً ببياضه حتى ليظن الناظر إليه أنه البحر بكل ما فيه، ولكن الحق أن الكنز النافع للناس ماكث في أرضه لا يطفو لأنه ثقيل بمادته وقيمته. وهنا يتجلى الفرق البارز الذي كان من شأن منهج الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) المعاصرة أن تقدمه بين مفهوم (السطح) ومفهوم (الظاهر)، بأن (الظاهر) كلمة تتضمن معنى ما يبدو من حقيقة الشيء بما يجعل تصور مجمل حقيقة الشيء أمراً متوقعاً، أي أن الجزء من الحقيقة هو حقيقة، ومن هذا الجزء للحقيقة الذي يبدو لعياننا في لحظة معينة ومن زاوية رؤية معينة يحمل إمكانية الاستدلال منه على باقي الحقيقة ومضمونها الكلي، فأصبع واحد بيد إنسان يدل على الشفرة الوراثية لهذا الإنسان بكامله. وهكذا يوحي إدراك الجزء الظاهر بتصور الكل الكامن على هيئة لا تبعد عن الإطار العام الكلي لما ينتمي إليه هذا الجزء وإن تعددت أشكاله.

أما (السطح) فهو ينبئ عن المتغير، عن الثياب التي يبدلها الإنسان على جسده كل يوم بأشكال وألوان مختلفة وعلى نحو متجدد، فهكذا يبقى الإنسان بذاته جوهراً بخيره وشره ومحاسنه ومساويه، وتظل الثياب عليه والمساحيق التجميلية عرضاً زائلاً كذهاب الزبد من فوق البحر. وكما أن الزبد هو ثياب البحر لا يغير من جوهر البحر شيئاً مهما تغير هو، فكذلك لا تغير ثياب الواعظين ثعلباً إذا ما ارتداها، كما لا يعالج مشرط الطبيب مريضاً إذا ما استعمله حائك للثياب أو عالم في الرياضيات، ولا تجعل البزة العسكرية مقاتلاً إذا ارتداها من نُشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى