رأي

قضية “مابل سيمور”

وائل الكردي

“ليس هناك غير طريق واحد، هو استجوابها استجواباً مرهقا عنيفاً، وتوجيه أسئلة تتعلق بالأشياء والأمور الصغيرة البسيطة التافهة، وعلى الرغم من أن روايتها تبدو منسجمة في ظاهرها وخطوطها العريضة، لكن هل تستطيع أن تضع النقاط فوق الحروف؟ عليك ألا ترحمها، أترك لها حبل الأسئلة، على ما تعلم فهذه هي الطريقة الوحيدة لكسب المعركة”.

قد لا يمتلك المرء نفسه من الشعور بأنه مرهق فعليا أثناء استغراقه في قراءة هذه الرواية الواقعية التي ألفها من تجربة حية القاضي الأمريكي (داڤيد. و. بيك) تحت عنوان (قضية وصية مسز جرير) والتي تم اقتباس النص المذكور آنفا منها.. ومحور القضية هو أن “مسز جرير” والتي اسمها الشخصي (مابل) كانت وصيتها للميراث، بعد وفاتها، إلى جامعة (هارفارد) في حين أن لديها ابناً غير شرعي، والذي لم يثبت قانوناً نسبه إليها حيث أنها أنجبت طفلاً في حالة فقر وغموض، وقد هجرته لكي تتزوج من رجل غني.

وبالرغم من أن أغلب المحامين لا يقبلون الترافع في قضية إلا في مقابل أتعاب محددة إلا أن هناك من المحامين – سيما في أمريكا- من ينتهز الفرصة للدفاع في قضية كبيرة بحيث أنه يساعد الموكل الفقير صاحب الحق في أن يجد من يمثله أمام المحاكم ثم يتقاضى أتعابه مؤخراً وهذا ما جرى بالنسبة للمحامي (فريدمان) مع موكلة (هارولد سوجر) والذي كان مطلوباً إثبات نسبه كإبن للمتوفية فيستحق هو الميراث ولا يتوجه الى جامعة (هارفرد)،.. فهذه الرواية تجسد طريقة قضاء المحاكم الأمريكية في القضايا المدنية والتي تميزت بأنها تجعل من مرافعات المحامين معارك كلامية شديدة القوة والضغط الانفعالي، فمن كان إذن غير (هنري رياض) القانوني السوداني البارز ومعه (كرم شفيق) يمكن له أن يترجمها باقتدار عال مثلما فعلوا هم..

لقد كان الحوار بين المحامين والشهود في الرواية حواراً سقراطيا توليدياًً بامتياز، حيث لم يبني (سقراط) الإغريقي القديم في زمانه فلسفة على دعائم معرفية شاهقة ومكتملة ولكن كان سائحا بين الناس حراً يثير حوارات وأسئلة يولد بها المعارف مِن إجابات مَن يحاوره، فقد كان مؤمناً بمقولته المشهورة (أعرف نفسك) وأن الحقيقة تنطوي داخل الإنسان ولكنه نسيها فلا يتذكرها إلا حين السؤال.. وهكذا يظل يسأل في العمق حتى يصل إلى مستقر يطمئن إليه القلب.. وهكذا كان فعل المحامين الأمريكان كما في الرواية أنهم ينقلون السؤال للشاهد إلى مستويات متعددة فيصطدم الشاهد بها ويجيب حالاً فيظهر الاتساق أو التناقض في أقواله. فيمكن القول ان المحامي الامريكي – كما ظهر في الرواية – يبدو أنه ينطلق من الثغرات القانونية ويطرق عليها بتركيز عميق أكثر مما يهدف ويتجه إلى النصوص الحكمية المباشرة في القانون.. فتلك الثغرات القانونية تكشف عن فراغات نصية بين كل مادة قانونية وأخرى فتترك بذلك المجال مفتوحاً أمام المحامين لممارسة الحيل المنطقية والألاعيب الاستدلالية بحسب مهارتهم وحذقهم في توجيه الأسئلة بما يجسد حنكة المحامي الامريكي في القضايا المدنية أكثر الشيء.

 

ولنا أن نقرأ من بين السطور في هذه الرواية ما يصلح ليكون دروساً مستفادة ووصايا.. فقد ظهر من مجريات المرافعة القضائية للخصوم بها أن هناك من الناس من لا تقوم ذاكرتهم ولا يتوجه انتباههم بصدد الوقائع والأحداث إلا نحو الأبعاد المكانية التي تقع فيها وذلك دون الظرف الزماني، فليست تعلق في ذاكزتهم التواريخ ولا يحسبون حساباتهم بالأرقام الزمانية عادة، ولكنهم يعملون تركيزهم على التنظيم والترتيب للوقائع في المكان أو على طريقة التفكير المكاني، وبالتالي أيضاً يدركون الكائنات والأشياء على ظواهرها الكلية كبنية إطارية واحدة دون التدقيق في ملاحظة الجزئيات حيث تأخذ التفاصيل الدقيقة في أذهانهم غالباً شكلاً ضبابياً يصعب معه تذكرهم وسردهم إياها، فهؤلاء الأشخاص من هذا النوع يكون من الأجدى استنطاق روح النصوص القانونية وليس منطوقها المباشر في التعامل مع شهاداتهم واثبات اقولهم..

 

وكذلك أيضا قد يظهر من وراء سطور الرواية أن المحامين كانت لديهم مهارة يبدو أنهم تدربوا عليها جيدا هي استخدام أسلوب التحليل النفسي في اختيار نوع الأسئلة المناسبة الأمر الذي يعتمد على مهارة المحقق الذي يقوم بالغوص نحو الصورة الحقيقية للوقائع في عقول من يدلون بشهاداتهم أمام المحاكم.. فكم من عدالة تضيع وكم من مظالم تقع على الناس في القضاء فقط لأن محاميي الدفاع لا يجيدون فنون طرح السؤال على الشهود في القضايا.. وكم من براءة نالها متهم بجرم كبير جراء حنكة محامي الدفاع في سد الفراغات بين النصوص القانونية باستدلالات منطقية أوحت له به طريقته في طرح الأسئلة فيقود النصوص نحو صالح المتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى