إغريق السودان

وائل الكردي
عندما تتفتح أزهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. أثرى تاريخنا الإنساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن، فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئاً كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون، ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فإن كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في أحيائنا وقرانا ومدننا، كما نحن نعيش، فكانوا هم الإنجليز واﻷرمن والاغريق واليهود وآخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة وأعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الأنيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة أحفاد (طاليس) و(أرسطو) من اليونانيين وأجناس أخرى من عموم الأوروبيين ممن جلبتهم أقدارهم للحياة في السودان، فصاروا جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي ..
ولأن (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولأن الكثيرين من أبناء الجاليات الأجنبية كانوا يرتادون مكتبته، فقد علم عن أخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان أعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن أصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الأبناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه إشارات إلى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين وأهلنا الجنوبيين فلابد أنه كان لهذا التفاعل الحضاري أثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية ..
وصحيح أن اليونانيين كانوا هم أمراء الاقتصاد السوداني في وقت ما، وأن من يدير عجلة الاقتصاد غالباً ما يدير معها حركة الثقافة، إلا أننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الأثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الأول في السودان (كونتا ميخالوس) وإسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الأحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الأثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الأخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. وأذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من أبرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي، وبعد وفاتهما آل أمرها إلى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومَن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءاً من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. إن هناك من تسلط على تلك الأصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الإيجار إلى الدرجة التي تتجاوز بعيداً حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو أنه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك أخاف أبناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث أن الشبهة في ذلك أن له ثمة علاقة وثيقة بجهاز أمن النظام السابق.
لقد ترك اليونانيون ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو أقرب إلى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك أمسك اليونانيون عن بناء برج استثماري كان مخططاً له على إحدى أملاكهم في وسط الخرطوم خوفاً من ضياع حقوقهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم إلينا إلى درجة أنه كان منهم من يحضرون من أثينا إلى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الأمر سر إذ أن كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والإخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الأرض وبلدانها .. وليس غريبا أن بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الأخير لنا عندما اضطر للرحيل إلى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا، عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريباً.. وإن كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى أخريات الثمانينات بكونه من أعظم القادة الذين أسسوا للكشافة السودانية، إذ تشهد عليه أراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فإن (وليم الكسندر ميلر) الإيرلندي كان له فضل علم غزير على أجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى أوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الأخير من العقد الأول للألفية الراهنة ، وهو أيضا ودع السودان ورحل باكياً، وكثيرون أمثالهم ..
فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا بحزة النفس والأسى لتركهم ذكريات أعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الأدبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم وأخبارهم .. إن أستاذنا (الحاج محمد الأمين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .