الذاكرة السودانية: من مؤانسات الصادق المهدي: شعرنا القومي يعاني التهميش فهل يحمل السلاح ؟

محمد الشيخ حسين
18 رمضاناً مضت على رمضاننا هذا حين ضمتنا جلسة ثلاثية الأبعاد من الإمتاع والمؤانسة تبدأ بالرمضانيات وتمر بالسودانيات وتنتهي بالوجدانيات*.
عطر في تلك الأمسية الراحل السيد الصادق المهدي سماء (خيمة الصحافيين)** ، بعيداً عن ساس ويسوس وما بينهما من لعنات.
وسرت بين الحضور نسمة نيلية منعشة جعلت المتابعة عملية جاذبة في ظل الحضور الطاغي للسيد الصادق المهدي، لكن الإمام الراحل بدد حماس مَن جاء لكي يعرف آراء زعيم حزب الأمة في السياسة ومشتقاته الجديدة في وصف الحال المائل منها، بقوله (إن الذين أتوا هذا المساء في حماس طاغ للاستماع لحديث عن فكر أو نزاع سياسي لن يجدوا ما يريدون هنا). لكن سرعان ما عاد حنين السياسة لحفيد الإمام المهدي بتأكيد أن (السياسة من الكلمات المظلومة جداً، لأن من يطرق بابها من الناس في الغالب يسلك فيها سلوكاً يجر عليها سوء السمعة).
مشتقات جديدة
أما الجديد في مشتقات حفيد المهدي أن الشعر القومي السوداني يعاني من التهميش، لكنه لا يقوى على حمل السلاح.
ويبقى القول إن السيد الصادق المهدي هرب من السياسة المباشرة في تلك الليلة، وقدم محاضرة متفردة تناولت نواحي جديدة في حياتنا المعاصرة، وتنوعت فيها الأسئلة وكثرت فيها الإجابات، وتعددت فيها الملاحظات والاستنتاجات. ليت الأخ الحبيب سعادة الفريق عبد الرحمن الصادق المهدي (الإمام المرتقب) للأنصار يهتم بتجميع مقولات وأوراق الإمام الراحل لكي يعد كشكولا للحياة السودانية قد يرسم خارطة جديدة (مدنكلة) لتاريخ أهل السودان الاجتماعي.
الذاكرة السودانية تقدم هنا ملخصاً لهذه الأمسية اقتضته ظروف النشر، واعتمد على حضور الندوة ومسودة لتفريغ ثلاثة أشرطة فيديو اجتهدت فيها كل من الأستاذة رباح الصادق والأستاذة إيمان الخواض.
شهر الطعام
يرى الإمام الراحل أن تصرفاتنا تحول رمضان من شهر للصيام إلى شهر للطعام، والشاهد أن أسعار السلع الاستهلاكية تقفز بنسب ملحوظة بمناسبة رمضان. وهذا يجافي حكمة الصيام بمعنى الإقلال من الطعام والشراب. ويلتفت إلى ثمة مفاهيم خاطئة تتعلق بالشهر الفضيل تتمثل في ترك البعض للفم يرسل قاذفات كريهة ولا يهتم بنظافة فمه، مستشهدين بالحديث الشريف (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك). ولكن الرسول (ص) قال عند الله ولم يقل عند الناس. وهناك من يتعامل مع رمضان باعتباره عبئاً ثقيلاً.
خمس فوائد
ينطوي رمضان عند الإمام الراحل على خمس فوائد، في مقدمتها أنه رياضة روحية، فإذا كنا نعتقد أن وراء الطبيعة كيانا روحيا أو غيبيا فلا بد أن نتصل بهذا الغيب الروحي. وهناك رياضات عبادية لهذا الاتصال. والشواهد القرآنية كثيرة.
وهذه الرياضات هي التي أبحر فيها الصوفية وتحدثوا عن هذا الوصال الروحي عبر العبادات.
وحتى أولئك الذين لا يؤمنون بالغيب، يدركون أن في الإنسان مقدرات فوق الحسية: الألمعي الذي يريك الرأي كأن قد رأى وقد سمع.
ثانيا: في الصوم تربية أخلاقية، فالإنسان يواجه تعارضا بين المنفعة والواجب، وكلنا يواجه هذا التعارض في مختلف الظروف، حيث نجد أن هناك أمورا فيها منفعة لنا ولكن الواجب في عدم أدائها، هذا التناقض بين المنفعة والواجب يحتاج لصبر والتزام بالمبدأ، وهما من الأشياء التي يسهم الصيام في تمرين النفس عليهما ضد مغريات المنفعة.
ثالثا: الصوم ضرورة صحية، وفي هذا تحدث كثيرون عن تنشيط الصوم لوظيفة التكييف مع قلة الطعام، تبديل الأنسجة. ومحاربة السمنة، هذا الداء الذي نتعامل معه بلطف، مع أن الواجب التعامل معه بقسوة لأنه بالفعل داء عضال، فأمراض الشرايين والقلب والمفاصل والسكري، كلها مرتبطة ارتباطا مباشرا بالسمنة، ولذلك لا بد من مواجهتها. والصوم من وسائل القضاء على السمنة.
رابعا: في الصوم فوائد اجتماعية، فهو إلى جانب كونه يشحذ الناحية الروحية، فإنه يشحذ الحس الاجتماعي والوصال والمؤانسة مساءً. والناس يستخدمون جملة رمضان كريم بطريقة غير صحيحة، فهي في الأصل تقال عندما يأتيك زائر في وقت الصيام فلا تستطيع إكرامه بشيء فتقول له: رمضان كريم، فهي نوع من الاعتذار، ولكنها الآن أصبحت تقال كنوع من التحية، ويكون الرد عليها الله أكرم، كأنما هناك منافسة في الكرم بين الله ورمضان. وهذا استعمال غير مضبوط على أية حال.
خامسا: هناك فوائد رمضانية أممية، إننا بصفتنا مسلمين مهما اختلفت بلادنا، وأحزابنا، ووجهات نظرنا، ومذاهبنا، يجب أن نعترف أن هناك وحدة وجدانية بيننا، وفي رمضان تزيد هذه الوحدة الوجدانية بممارستنا لممارسات مشتركة، فما من شك في أن رمضان يزيد الشعور بأن هذه الأمة كتلة وجدانية واحدة بصرف النظر عن اختلافاتها الكثيرة، لذلك فإنه من المؤسف جدا أن نظهر في رمضان أسوأ مظهر من مظاهر الاختلاف حول بداية ونهاية الشهر. فهناك من صام يوم الأربعاء، والغالبية صامت يوم الخميس، آخرون صاموا بالجمعة.
المعلوم أن رؤية الشهر وسيلة وليست شعيرة، لأن المقصود بالرؤية في الحديث هو تأسيس استخدام المنهج الطبيعي لتحديد بدء العبادة، وليست مقصورة فقط على العين المجردة، بل أيضا بالعلم بالشيء، لذلك إذا تم شهر شعبان ثلاثين يوما وجب الصيام.
ويقتضي التفسير الصحيح والفهم والاستنباط الصحيح، الخروج من المسألة الصورية «القياس والإجماع» إلى مسائل كثيرة كالحكمة والعقل والمصلحة، والسياسة الشرعية، وكلها مصادر لفهم النصوص.
خصوصية سودانية
في المحور الثاني المتعلق بالسودانيات، تبدو عند الأمام الراحل فكرة التعاقب هذه بين الغناء والحديث فكرة جيدة جدا، كان ابن عباس رضي الله عنه يدرّس، وكان يقول: هذه القلوب إذا ملت كلت وإذا كلت عميت، لذلك لا بد أن يكون هناك شيء من الترفيه ليجدد الاستعداد للتلقي.
الحديث اللاحق مرافعة أرجو أن تكون مقبولة ومقنعة عن وجود خصوصية سودانية.
أما الحديث عن نكران هذه الخصوصية أو بعض مكوناتها، فكثير منا لأسباب خاصة برؤاهم وليس من بينها أنهم ليست لهم وطنية، ولكن ينظرون للأمر من زاوية أخرى. كان بعضهم يرون أن هذه الخصوصية السودانية خطر على علاقتنا العربية، لذلك يريدون التقليل منها.
وهناك الخوف من أن هذه الخصوصية السودانية تكون على حساب انتمائنا شمالا، الأمر الذي جعلهم ينكرونها، واليوم بعض الناس ينفي تلك الهوية لصالح الانتماء جنوبا. هذه الجدلية التقليل من الخصوصية لصالح الانتماء شمالا، والآن نفيها أو التقليل منها لصالح الانتماء جنوبا هو ما ينبغي أن نواجهه.
الجزع مما حدث من هيمنة أتى بردة فعل للحديث عن تصفية عناصر مهمة في هذه الخصوصية لصالح الانتماء جنوبا. مثلما كان هناك حديث عن تصفية هذه الخصوصية لصالح الانتماء شمالا وهزمت، الآن هناك حديث عن تصفية هذه الخصوصية لصالح الانتماء جنوبا وينبغي أن تهزم. ولا يستطيع احد أن يسلخ جلدته، ولذلك يقال له لا تفرضها ومن الخطل أن يقال له اسلخها.
أصل الحضارة الفرعونية
عند استعراض التاريخ المدون في الآثار عن وجود خصوصية سودانية، هنالك تخمينات عن أصل الحضارة الفرعونية التي ازدهرت في شمال وادي النيل. وهنالك كتاب مشهور للشيخ أنتا ديوب السنغالي يرجح فيه أن الحضارة الفرعونية حضارة أفريقية في أصلها. في مرحلة ما مدونة هذه الحضارة ضمت السودان ومصر في تاريخ واحد ودولة واحدة، يتعاقب عليها الفراعنة مصريين وسودانيين، من الفراعنة السودانيين تهراقا وبعانخي.
ثم جاءت مرحلة فيها السودان ومصر اختلفا في الطريق: مصر خضعت لغزوات، والسودان خضع لتطور في خصوصيته التي أخذت حلقات كوشية ومروية وقبطية أو مسيحية وإسلامية، تعزز جميعها فكرة وجود خصوصية سودانية. ومن معالم الخصوصية أن الديانتين العالميتين اللتين دخلتا، كان دخولهما سلميا. وتعاقبت ثلاثة عهود جامعة: التركية، المهدية والحكم الثنائي.
التركية فيها تنوع وتسامح واضطهاد أجنبي ولد معه (شكمة)، فالمهدية كانت رد فعل لهذه الشكمة. واتسم مناخ الحكم الثنائي بتنوع وتسامح خلق استقرارا، ونمت في ظله إنسانيات سودانية. تعبر عن شيء اشتركت فيه هذه الشعوب السودانية.
وجاء الاستقلال بأربع جدليات: جدلية المركز والأطراف، جدلية المحيط الجيوسياسي العربي ـ الأفريقي، جدلية الإسلام والعلمانية، وجدلية الوطني ـ الدولي.
وانعكست هذه الخصوصية على الإنسانيات السودانية، على الرغم من التنوع الثقافي والاثني السوداني.
وفي زيارة للأردن إبان رئاستي للوزراء عام 1987م، أقام السفير هناك دعوة وحضرها الأمير الحسن بن طلال، وكان حينها وليا للعهد، قال إنه حرص على الحضور لأنه وكثيرين لاحظوا وجود شيء خاص بالسودانيين سموه إنسانيات سودانية.
ونفس الكلام قاله لي الجنرال سمبويو الكيني الذي كان مراقبا في مفاوضات اتفاقيات السلام الأخيرة. قال إنه شهد روحا أو شيئا مختلفا عما عهده في البلاد الإفريقية الأخرى. وهاتان شهادتان من عربي يمثل جزءا من تكويننا، وآخر إفريقي يمثل جزءا من تكويننا عن وجود إحساس بهذه الإنسانيات السودانية.
وصحيح أن هناك نوعا من الشعور بالإحباط هبط بهذه الصورة، وصار هناك كلام خطير ينكر الإنسانيات السودانية، ويتحدث عن أن السودان خلق صدفة في التركية، آخرون يتحدثون منكرين أية ميزة للسودانيين. مثلا أخونا عبد الله ضحية في مقال نشر بمجلة سودانايل الإلكترونية كان عن الشخصية السودانية بعنوان (كيف تكون سودانيا حقيقيا؟). تحدث عن 12 خصلة للسودانيين: الإهمال، الاتكال، الكسل، اللامبالاة، القذارة.. الخ. وصارت هناك بداية لقراءة سالبة للإنسانيات السودانية وشعور بأننا انتهينا.
وهذا خلاف الشعور الذي كان عن الخصوصية السودانية والميزة السودانية، وللذين عاصروا تلك الفترة المزدهرة ممن درسوا في جامعات أوروبا، يذكرون كيف كانت الجمعيات في الجامعات الغربية، سواء أكانت الجمعيات والروابط العربية أو الإفريقية أو الإسلامية، تختار سودانيين لرئاستها.
الوجدانيات
يبدأ المحور الثالث عن الوجدانيات بالحديث عن وجود أخلاق السمتة في السودان. وهي في مقابل أخلاق الفروسية المعروفة
والحديث عن الأخلاق السودانية يستدعي قراءة بالشعر السوداني القومي على ما اعتقده أهم أخلاق السمتة السودانية. والشعر القومي كالريف من المهمشات، فالريف والبادية فيهما درجة أعلى من الإهمال لصالح الحضر، وهذا يحتاج لتصويب، فالحركات المختلفة الموجودة الآن تعبر عن ضرورة الاهتمام بالذي سقط عنه الاهتمام في الماضي. والناس يهتمون بالنثر الفني والمكتوب والشعر الفصيح، ولكن الأدب القومي مهمل ومهمش ولم يجد الانتباه اللازم. حبذا لو أُكمل الجهد العظيم الذي قام به المرحوم عون الشريف قاسم (معجم ألفاظ اللهجة السودانية)، فنحن محتاجون لموسوعة التراث الأدبي السوداني غير المكتوب، وبه مرآة لأخلاقنا السودانية في جوانبها المختلفة.
مكانة المرأة
المتتبع للشعر القومي السوداني وغناء الحقيبة بصفة خاصة، يلحظ نبرة وأثارا ماترياركية، أي يتعامل مع المرأة كسلطان.
وهذه النبرة مدهشة، ولا توجد في البلاد العربية الأخرى. ولعل هذا ما دفع رجالا تقليديين كالشيخ بابكر بدري والإمام عبد الرحمن المهدي، إلى تبني حقوق المرأة وحريتها. وهي التي جعلت منذ السلطنة الزرقاء الشيخ أبو دليق يخلف ابنته عائشة خليفة له، مع أن له ولدا غيرها. وهذا ما جعل المرأة السودانية تنال حقوقها بسهولة، فالناس الذين يفترض أن يلعبوا دورا رجعيا ضد حقوقها لم يلعبوه، وكانت هناك استجابة كبيرة جدا.
وحينما كتبت الأستاذة حاجة كاشف كتابها عن كفاح المرأة قلت لها هذا عمل جيد، وقد تكلمت عن تبني اليسار لحقوق المرأة، وهذا أمر طبيعي، فاليسار ينادي بالتغيير وينتظر أن ينادي بحقوق النساء، ولكن المدهش الذي كان يفترض أن تركزي عليه ـ كما قلت لها ـ هو أن اليمين أيضا أيد دور المرأة وهذا مدهش.
في غناء الحقيبة صحيح يوجد الحديث عن الحرمان والغزل الحسي، ولكن أيضا وبشكل واضح توجد المرأة كسلطان وليست للرغبة أو الشهوة، هذا التعبير السلطاني صدى الماترياركية. والأمثلة كثيرة، فسيد عبد العزيز في أغنية قائد الأسطول (مين لي سماك يطول)، ومحمد بشير عتيق (ليك نفرة الغزلان مع جبرة الفرسان في هيبة المنصور)، ومحمد ود الرضي: (هادي ساكن آمن قادل، بهجة هيبة حاكم عادل)، ومحمد عبد الله الأمي (أنت حكمة أنت أية أنت خالي أنت عالي أنت سلطان)، عبد الرحمن الريح (فاق السلاح وكسر حديده، نقرابي في صفحة خديده).
ونجد في المقابل روضة الحاج (الأميرة أو جزء من أميرة) ربما لأنها عاشت في منطقة الخليج أو تأثرت بها، فقدت هذا الشعور، شعور الراجل (الحمش) وتطلعها:
ثر ومرني بالبقاء
احتاج أحياناً لبعض بداوة
تقصي التحدي في دمي
وتعيدني قسراً إلى خدر النساء.!!
هذا تشوق إلى شيء من المناخ الخليجي يخالف ما عندنا.
بعد كل هذا أقف لنسمع مزيدا من الأستاذة عابدة الشيخ، وأول من اكتشفها وقدمها للجمهور المرحوم حسن عطية، وأفضل من وصف صوته المرحوم الشيخ الطيِّب السرَّاج. وقد بدأ به قصيدة في مدح الإمام عبد الرحمن، وروى لي أن هذه البداية هي وصف لصوت حسن عطية:
ما هاج قلبا بعد طول سكونه
فأقام فيه قيامة بسكونه
كمرجّع رقَّت حواشي صوته
في خفضه وعلوه وسكونه
بعد هذا تخلص من هذا الوصف وقال قاصدا أن يبدأ مدح الإمام:
فدع الجمال وخل ذا جدن لمن
يولي الجميل ولا حياة بدونه
ــــــــــــــــــــــــ
* قدمت هذه المحاضرة في خيمة الصحافيين في سبتمبر 2007.
** ابتدرت طيبة برس بقيادة الأستاذ محمد لطيف إقامة خيمة الصحافيين في العام 2003م وظلت تقيمها سنويا مع حلول شهر رمضانحتى ليلة السبت الموافق 15 أبريل 2023م.