
د. حسن عيسى الطالب
أورد الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: ” إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم” الآية 34 المائدة – والتي جاءت بعد أية المحاربة التي أوقع المولى تعالى على مقترفها أنكالا من العذاب:
“إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يُقتّلوا أو يُصلبّوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم”- الآية 33 -المائدة،
ذكر أن حارثة بن بدر خرج محاربا، فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الأموال، ثم جاء تائباً من قبل أن يُقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه توبته، وجعل له أمانا منشورا على ما كان أصاب من دم أو مال..
وخلص الطبري إلى أن الأمر متروك للإمام أن يؤمنّه.
وهذا هو مذهب الإمام مالك بن أنس والليث بن سعد.
وذكر الطبري كذلك أن علياً الأسدي، حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فجاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه تائبا، فأخذه إلى مروان بن الحكم، وكان الوالي على المدينة في زمن معاوية، فعفا عنه؛ ثم خرج مجاهدا في إحدى المعارك مع الروم، فاستشهد غرقا في قتال داخل سفن الروم بعد اشتباك مباشر معهم.
هذه شواهد مهمة، وسوابق فقهية شاهرة، يتعين الاستهداء بها في الأوضاع الجارية في بلادنا، وتقتضي تأمين من جاء تائبا من المغرر بهم، وخاصة من قادة الميليشيا المؤثرين، ذلك لأن المصلحة العليا للبلاد، وفقه المقاصد في الإسلام، وضرورة تأمين الوطن وجمع أبنائه في صعيد واحد للدفاع عنه، مقدم على الثارات الشخصية، والعواطف الجياشة، والحسابات الوقتية. فحماية الوطن وجمع الشمل على النصرة والمؤازرة، فضلا عن فريضة الإمتثال لأمر الله، مقدمة على كل ما سواها من التبريرات ودعاوى التشفي وإشباع شهوات الإنتقام.
بيد أن توبة المحارب الآيب قبل القدرة عليه، والأمان الممنوح له يقتضي بالضرورة رد كل ما في يده من أسلاب.
وذكر الإمام الطبري أن ذلك كذلك “لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة، المحاربة لله ورسوله، الساعية في الأرض فسادا” وأضاف:
“أن الحكم الذي ذكره الله في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين نصبوا للمسلمين حربا”. وهذا الحكم يستثني المرتزقة المجلوبين من خارج الحدود.
في القوانين الدولية أيضا ما يسمى بالعفو الرئاسي، وآخره ما كان من عفو الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن مؤيديه الذين اقتحموا مبنى الكونغرس في 6 يناير 2021م احتجاجا على فوز خصمه الديمقراطي جو بايدن واتهامهم إياه بتزوير الانتخابات، وكان قد صدرت أحكام على بعضهم بالسجن عشرات السنين.
وكانت حكومة الإنقاذ قد أصدرت عفواً عاماً عن المتمردين الذين حملوا السلاح ضد الدولة إثر توقيع إتفاقية السلام الشامل عام 2005م في نيفاشا.
بيد أنه يتعين، ومن حيث المبدأ، وفرضية الحكم الراشد، ومساعي بسط العدل الشامل، أن يشكّل السيد رئيس مجلس السيادة لجنة من القضاة والخبراء والمختصين للنظر في مثل هذه الحالات، ويتعين أن تتحمل الدولة تعويضات عن الخسائر البشرية والمادية التي اقترفها من شملهم العفو الرئاسي مراعاة للمصلحة العليا للبلاد.
ومن المأمول أن تنتظم البلاد، بعد أن تضع الحرب أوزارها، لجان وطنية في كافة مناطق البلاد، للتوبة الجمعية الشاملة، وعلى غرار “لجان الحقيقة والمصالحة” التي انتظمت جنوب أفريقيا بعد توقيع إتفاقية السلام التي أنهت نظام الأبارثيد بعد عام 1991م.