ثقافية

الذاكرة السودانية: سكك حديد السودان هل من عودة تاني ؟

محمد الشيخ حسين

جاءت السكة الحديد للسودان كناقل لجيش الغزو الثنائي بفيادة اللورد كتشنر. وما كان له أن ينجح في غزوه لولاها.
نما وترعرع هذا الوليد وصارت السكك الحديدية وسيلة النقل الميسرة للجميع في هذا البلد الشاسع. فتبوأت مكانا في أدبنا وشعرنا (قطار الغرب، قطار الشمال، والقطر القطر نويت السفر ودعت حبيبي ودمعي انهمر).

وإن شئت لغة المال والتجارة فهي البنية التحتية الأساسية لاقتصادنا القومي، وهي مع هذه الأهمية ذات وضع فريد، خط واحد يسير على ردمية من التراب على فلنكات من الخشب تم تغيير معظمها في فترات لاحقة إلى أعمدة خراسانية في قطر مترامي الأطراف يواجه مناخات متعددة وكادر بشري توفرت له خبرة واسعة ورثها أبا عن جد.

عن هذه الخبرات وإضافاتها للعمل في الداخل والخارج يدور سؤال هل من عودة تاني لهذا القطاع المهم في أي تنمية مرتقبة للسودان ؟

الخبرة في الداخل
خلق العمر الطويل لتجربة السكة الحديد في السودان، خبرة سودانية متمكنة في هذا القطاع الحيوي للنقل، لاسيما في بلد شاسع كالسودان.
ومعلوم أن الخبرة التي جاءت مع كتشنر قبل 130 عاما لبناء السكة الحديد كانت خبرة أجنبية، وفي أساسها كانت خبرة مصرية والأيدي الماهرة كانت من الاغريق والطليان وبعض الإنجليز.
ولضيق وقت كتشنر فقد تم بناء الخط على الرمل، وكان في طريقه يقوم بتعيين العمال والطلب وأفراد الدريسة. وبعد أن طاب له المقام في الخرطوم، وتم بناء كلية غردون كان أوائل خريجيها من عملوا بالسكة الحديد كمهندسين، وهؤلاء بالإضافة إلى العمال نالوا خبرات واسعة في هذا المجال، وقاموا بتوريثها إلى أبنائهم.

ونحن الآن لدينا الجيل الثامن والتاسع وربما العاشر من أحفاد الأوائل الذين عملوا في السكة الحديد. وأضحت المسألة بالنسبة للعاملين في السكة الحديد مسألة توارث. في مجال آخر كانت السكة الحديد هي الحقل الأول لتدريب طلبة كلية الهندسة بجامعة الخرطوم.
وطبقا للنظام الذي درست به الهندسة كان الطالب يقضي كل السنة الخامسة في الورش بعطبرة ومنها إلى جبيت والعودة مرة أخرى عطبرة للتطبيق.

من هذه الخبرات الواسعة أضحت السكة الحديد مدرسة، فالمهندس الذي يتخرج وهو ملم بأشياء عديدة، ولكنه إلمام من درس فقط وبمجرد ما يباشر عمله بالسكة الحديد يعتبر تلميذ مهندس. وإذا كان مهندس ميكانيكي يلبس (الأفرول) وينخرط مع العمال، وبعد هذا يتدرج حتى يصل إلى المسؤولية الكاملة. وبدون فخر هذا النظام الذي استنبط في السكة الحديد عمل به في مصالح ووزارات أخرى.
وعلى هذا الأساس يعتبر أي عامل أو فني أو مهندس تدرب وعمل في السكة الحديد قد نال تدريبا كاملا. وأغلب هؤلاء سافروا في بعثات إلى الخارج وشاهدوا كيف يعمل الآخرون في هذا المجال.

الحلول الذاتية
تقود طبيعة الحديث عن التدريب والبعثات إلى السؤال عن طبيعة مشاكل ودور هذه الخبرات في إعادة سكك حديد السودان إلى أمجادها القديمة.
واقع الحال أن مشاكلنا كثيرة ولا تحل إلا بواسطتنا ولن يجدي إحضار الخبراء الأجانب، لأننا لو استدعينا أي خبير من هذا العالم، وقلنا له أن (سيلا) قد حدث في منطقة ما والمطلوب منه إيقافه، لن يستطيع هذا الخبير إيقاف السيل، لأنه سيكتشف أن القضيب في السودان يسير على الرمال. بكل تأكيد أن الخبراء في المجال هم نحن وليس غيرنا،
أما الذين يتضجرون من مشكلة أخرى امتلكنا خبرة كاملة فيها، وهي تسيير القطارات في الخط الواحد، وكما تعلمون فإن كل دول العالم تسير قطاراتها على خطين. لكننا في السودان استطعنا تسيير القطارات في الخط الواحد بسرعة معقولة جدا. لأكتر من 100 سنة.
وهناك نماذج مختلفة في الكباري على الخيران ومجاري السيول، وهذا مثل حي لقدرتنا الذاتية في الحلول، حيث تتم إعادة بناء الكباري بنفس المواصفات والخرط التي وضعت لها أول مرة مهما تطاولت السنوات. وهذه المعلومات محفوظة بالكامل لدى مكاتب السكك الحديدية، إضافة إلى أن رئاسة السكك الحديدية تضم متحفا يعكس تاريخ السكك الحديدية السودانية منذ كانت فكرة في ذهن محمد علي باشا والي مصر في 1842.
ومثل هذه الكباري تتطلب أيدي سودانية، لأن تنفيذها يتطلب ردم المجرى المائي في موسم الجفاف، وبناء الكوبري ثم سحب الردمية قبل موسم الأمطار أو الفيضان، وهو دون شك حل سوداني بإمكانات محلية في فترة قصيرة هي موسم انحسار النهر أو الخور.

الخبرة في الخارج
هذه الخبرة الواسعة التي اكتسبناها من ظروفنا الخاصة، تمت الاستعانة بها في الخارج في بلاد شبيهة بنا في الظروف المناخية والاقتصادية..
ففي سبعينيات القرن الماضي طلبت زامبيا من حكومة السودان ليس فقط الخبرة لعمل السكك الحديدية في بلادهم، بل طلبوا إدارة كاملة.وكل الأفراد الذين انتدبوا للعمل في زامبيا استلموا السكك الحديدية فيها بعد خروج الإنجليز، ومكثوا فيها نحو سبع سنوات وقاموا بتدريب كوادر زامبية لتدير العمل من بعدهم، وبعض هؤلاء المتدربين عادوا وبقى جزء منهم في زامبيا بعد أن أصروا على بقائهم هناك.

حصاد القول هنا عمل السودانيون في سكك حديد زامبيا في وظائف من المدير ورؤساء الورش والمهندسين وعمال الحركة.
من المفارقة أن زامبيا واجهت بعض القلاقل واضمحلت السكة الحديد فيها. وبعد أن عادت الأمور إلى نصابها استعانوا بالكنديين للإدارة ومكثوا فيها عامين ولم ينجحوا في الإدارة. ويعزي هذا الفشل إلى طبيعة المشاكل التي لا يعرفها الكنديون، وهي نفس مشاكلنا (السيول ـ الخطوط الضيقة ـ عدم وجود قطع الغيار).

الخبير الأجنبي
على المستوى العربي كان هناك طلب كبير لكوادر سودانية لكي تعمل في خطوط السكك الحديدية وفي مجال المؤانئ والمرطبات. ولم تؤثر هذه الهجرة على سكك حديد السودان بصورة كبيرة، لأنها نقوم بتعويض هذا النقص، والسكة حديد كما قلت مدرسة أجيال.
وهذا الحديث عن هجرة الكوادر يقود إلى الحديث عن جدوى الخبير الأجنبي، لأنك عندما تريد عمل (عمرة) للقطار، فإن أول عمل يقوم به الخبير هو إعداد كشف بقطع الغيار التي يطالبها دون أن يدرك طبيعة ظروفنا وطريقة مخازننا في توفير قطع الغيار، والتي لا بد أن تطلب قبل عام على الأقل من تاريخ استعمالها.
ولا يعني بهذه الطريقة أننا نقحم الإجراءات الروتينية في مشاكل يكون الزمن هو العامل الأساسي في حلها؟
الأمر ليس كذلك لأن سكك حديد بريطانيا وهي من أعرق الدول في هذا المجال ليس لها مخازن قطع غيار البتة، بل يقومون بجلبها من المصانع إلى التركيب فورا. وبعض الشركات الكبرى في ألمانيا وفرنسا يرسلون القاطرة المصنعة لها للعمرة.
وبالتالي فليس لديهم الخبرة التي نمتلكها في التيسير في ظروف صعبة وعمل العمرات والصيانة.
من هذه الخبرة الواسعة مع صعوبة توفير العملة الصعبة وطول الزمن، تتم الاستعانة من هذه الخبرة في تصنيع وابتكار قطع غيار محلية.
تبدو سكك حديد السوان رغم ظروفها الصعبة حاليا غير محتاجة إلى الخبرات الأجنبية في سبيل تجويد أدائها. وهذا الكلام يأتي في إطار المشاورات مع البنك الدولي.
والقصة تفيد أن البنك الدولي أجرى في زمن ما دراسة بواسطة إحدى الشركات الهندية، وأوصت هذه الدراسة بمدنا بخبراء في مجالات مختلفة. وبالطبع اختلفنا معهم وحددت سكك حديد السودان احتياجها من الخبراء الأجانب في مجالي الكمبيوتر الذي كانت بصدد إدخاله في المخازن، واللاسلكي الذي أدخل حديثا. طلبت خبراء في المجالين السابقين فقط للتشغيل والصيانة وتدريب كادر سوداني. وحددت العدد باثني عشر خبيراً وكانت وجهة نظر البنك الدولي أننا نحتاج إلى أربعين خبيرا. هؤلاء في حقيقة الأمر ليسوا بخبراء إنما مديرون والبون شاسع بين المدير والخبير.
والقصة تحكى أن أحد الخبراء أوكل إليه من قبل البنك الدولي إنشاء مركز للتدريب في السودان لمدة ثلاث سنوات، وقام هذا الخبير بإنشاء المركز في 11 شهرا، وعندما عاد إليهم ووجه بعاصفة من النقد، لأنهم افترضوا أن يمكث ثلاث سنوات حتى لو بدون عمل. وبنفس المستوى سيتم اختيار خبراء البنك الدولي الذين نستفيد من خبرتهم وعلمهم، لا نريد (أرزقية) يعيشون بيننا. وأمثال هؤلاء كثيرون في دول العالم كخبراء للبنك الدولي.
خمسة من هؤلاء الأربعين المرشحين من قبل البنك الدولي مرتب الواحد منهم 180 ألف دولار في العام، أي ما يعادل أكثر من 450 مليون جنيه سوداني بسعر اليوم.

عودة الأمجاد
مع وجود كل هذه الخبرات والجهد المكثف لتطوير السكة الحديد يصبح من الضروري تكاتف الجهود لكي تعود سكك حديد السودان إلى أمجادها السابقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى