ثقافيةسياسية

الذاكرة السودانية: أحداث أبريل 1985 انتفاضة ملفوفة بالنسيان

محمد الشيخ حسين

هبت الخرطوم في أبريل 1985 على مدى ثلاثة أيام، وضاقت شوارع العاصمة المثلثة بما رحبت بالمتظاهرين والمنتفضين والمتذمرين من جور الحكم وقسوة الحياة آنذاك حتى تهاوت أركان الحكم المايوي، بإعلان الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، وزير الدفاع استيلاء القوات المسلحة على السلطة، انحيازاً للشعب الذي انتفض ضد مَن قهره.

ما الجديد الذي يُقال بعد 40 عاماً على انتفاضة كانت محل اهتمام العالم واصطدم الحديث عنها بعقبة تراكم إعجابي ضخم توزع شرقاً وغرباً. لكن يبدو أن انتفاضة أبريل مع مضي السنوات أصبحت مثل مَن دخل طوعاً أو كرها في غياهب النسيان.

وليس هدف هذه الذاكرة أن تلهث وراء تفاصيل انتفاضة شدت اهتمام العالم وقتها، بل تسعى لإعادة مناقشة الحدث بصورة لا تنحاز للنظرة الإعجابية أو تعمل على نقضها، بل تحاول أن تربط أبعاد الزمن الثلاثة لعلها تقدم إضاءات ومداخل جديدة للعمل السياسي السوداني.

وقبل أن يلف النسيان ملف انتفاضة أبريل دعونا نتنقل بين أطراف الانتفاضة الثلاثة:
المجلس العسكري الانتقالي، الحكومة الانتقالية، والتجمع الوطني.
وسنتنقل في هذه الذاكرة بين ملخصات لمواقف الأطراف الثلاثة حول عدد من القضايا التي هيمنت على تلك الفترة.

الخطوة التي قام بها الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب ورفاقه باستلام السلطة في السادس من أبريل 1985 كيف تفسرها الأطراف الثلاثة:

القوات المسلحة
التفسير الوحيد لهذه الخطوة في أوساط القوات المسلحة أنها تلبية لنداء الواجب والوطن والضمير والإحساس بالمسؤولية. وبأي حال لا يمكن تفسيرها بأنها محاولة لامتصاص غضب الجماهير، لأنها إن كانت لهذا السبب لاستمرت قيادة الجيش في الحكم بعد أن هدأت الثورة.
والخلاصة أن الجيش انحاز للشعب. عبر اتفاق على فترة انتقالية حددت بعام واحد وسلم بعدها السلطة إلى ممثلي الشعب الذيت أتوا عبر انتخابات ديمقراطية وهذا ما تم بالفعل.

الحكومة الانتقالية
كلمة (انحياز) القوات المسلحة إلى جانب الشعب كما وردت صباح السادس من أبريل 1985 وثبتت في الأذهان منذ ذلك الوقت لم تكن موفقة، إذ أنها تعني بالضرورة الموازنة بين طرفين واختيار أحدهما الشيء الذي لم يكن وارداً أو ما كان ينبغي أن يكون أو أن الطرفين ـ إن صح التعبير ـ كانا بالضرورة الثورة الشعبية ونظام نميري.

إذن كيف يستوي أن تكون هناك موازنة ثم (انحياز) فالقوات المسلحة بالضرورة طرف هام من القوى الجماهيرية ولابد من وقوفها مع الشعب والتصدي لقضاياه في كل الأوقات والظروف.

التجمع الوطني
الخطوة التي قام بها الفريق سوار الذهب ورفاقه لا تتوفر حولها المعلومات الكافية حتى هذه اللحظة.
والسؤال الذي تجب الإجابة عنه هو ماذا حدث داخل القوات المسلحة في الأيام الثلاثة التي أعقبت موكب التجمع النقابي في 3 أبريل 1985م ؟
حسب معرفة وثيقة داخل دهاليز التجمع الوطني أنذاك،

توقيت الانحياز
توقيت انحياز القوات المسلحة للشعب هل كان له علاقة بمتغيرات خارجية مثل زيارة نائب الرئيس الأمريكي وقتها، جورج بوش، أو داخلية مثل اعتقال قادة الحركة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي؟

المجلس العسكري
نقطة انطلاق الجيش كانت من الواقع السوداني وقناعات بأن النظام المايوي لم يعد صالحاً للحكم بل كان وبالاً على السودان، وتحرك الشارع بكافة فصائله وتجمعاته كان مؤشرا لهذا. في هذا الجو تولدت أسباب التغيير . وحين تحركت القوات المسلحة لم ننطلق من أي توجه حزبي أو عقائدي بل إن توجهنا من أجل السودان.

الحكومة الانتقالية
على الرغم من أن الكثير قد قيل عن أن الانتفاضة كانت بتدبير مسبق وتوزيع للأدوار تحدد سلفا أو انقلاب قصر فوقي وتغيير في القيادات السياسية كإزاحة الإخوان المسلمين عن السلطة السياسية وارتباط هذا أو ذاك بزيارة نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش وبعض من قابلوه أو رفعوا إليه المذكرات وهم معروفون وينبغي عليهم أن يعلنوا غرض ونتائج تلك المقابلات والدوافع التي حدت بهم لمقابلته، كل هذه الظروف والعوامل الخارجية لاشك في أنها ذات صلة بما كان يدور في الساحة السياسية آنذاك .

التجمع الوطني
هناك ميل إلى الربط بين تحرك القيادة العامة وزيارة نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش واعتقال الاخوان المسلمين، إن ما كشفت عنه محكمة الفلاشا يوضح تدخل الجهات الخارجية وتخطيطها لزوال شخص استنفد أغراضه بالنسبة لها. وكان يهم تلك الجهات معرفة وجهة التغيير القادم وقيادته في اتجاه مصالحها. ولا يستبعد أن يكون اعتقال الاخوان المسلمين من تخطيط جهات خارجية.

الالتزام بالميثاق
الميثاق الذي بموجبه تكونت الحكومة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري إلى أي مدى التزمت به حكومة الانتقال في أداء مهامها؟

المجلس الانتقالي
التزام الحكومة الانتقالية بتسليمها للسلطة في موعدها المضروب من قبل القوى الممثلة لقطاعات الشعب المختلفة في تلك الأيام، يعد أكبر نجاح وكذلك ما قامت به الحكومة الانتقالية في إجراء (أنزه انتخابات) في تاريخ السودان، وكانت البلاد أنذاك تصارع المجاعة وتدرؤها، علما بأن الانتفاضة ساعة نجاحها لم يكن في بنك السودان دولاراً واحداً.

الحكومة الانتقالية
أي تقييم لأداء الحكومة الانتقالية لابد أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي واكبتها المرحلة والضغوط التي تعرضت لها عبر المذكرات والاعتصامات والإضرابات والمواكب التي جعلت الحكومة في موقف تفاعل مع الكوارث أدي إلى تحجيم قدرتها على العطاء في إطار البرامج المطروحة في شعارات الانتفاضة وقصر المدة الزمنية.

التجمع الوطني
لم تلتزم سلطة الانتقال بالميثاق الوطني إلا في إجراء الانتخابات في موعدها المحدد وبعض المحاكمات التي جرت لبعض رموز مايو والتي دار حولها الكثير من اللغط فيما يختص بأداء النائب العام ولجانه.
فيما عدا ذلك بالنسبة لتصفية آثار مايو – عموما – لم تلتزم سلطة الانتقال. وحتى في قضية الجنوب كانت هناك عراقيل وضعت من المجلس العسكري والحكومة في وجه الحوار الذي كان دائراً بين الحركة الشعبية والتجمع الوطني.

الخلاصة أن التزام سلطة الانتقال بالميثاق لم يكن التزاما كاملا، بل كان هناك تجاهل للكثير من المبادئ التي وردت في الميثاق.

عناصر ضعيفة
هناك وجهة نظر ترى أن بعض عناصر الحكومة الانتقالية كانت ضعيفة ولم تواكب مهام المرحلة، بل كانت تفتقد الكفاءة التي تؤهلها لتلك المناصب؟

المجلس العسكري
هذه وجهة نظر توضح مدى الديمقراطية التي وفرتها حكومة الانتقال ودليل على أن وجهة النظر غير صحيحة، لأن الحكومة الانتقالية في الحد الأدنى إن لم تكن متماسكة لما أوفت بوعدها.
والأهم من هذا هو تقدير الظروف التي استلمت فيها الحكومة السلطة.

الحكومة الانتقالية
بالنسبة للوزراء هناك قناعة فحواها أنهم كانوا يفتقدون على وجه العموم التجربة السياسية والتنفيذية السابقة لمواجهة التحديات.
غير أن الوزراء كانوا جميعا من ذوي المؤهلات والتخصصات العلمية وقد بذلوا جميعا الجهد الممكن لأداء أدوارهم.

التجمع الوطني
الضعف الذي اتسمت به بعض عناصر الحكومة الانتقالية لم يكن مصدره ضعف الكفاءة الفنية أو العلمية، فقد كان معظمهم من الرجال الذين يحملون مؤهلات علمية رفيعة في مجال تخصصهم ولكن مصدر الضعف كان افتقار معظم هذه العناصر إلى التجربة السياسية النضالية.
وكانت هذه قاصمة بالنسبة لأدائهم ولعل المسؤولية هنا تقع على رئاسة مجلس الوزراء التي نهجت نهجا بيروقراطيا أكثر منه سياسيا، وبالتالي فرضت علي جميع الوزراء التحرك في هذا الإطار فيما أسماه رئيس الوزراء بالنهج القومي.

التحرك في هذا الإطار فيما أسماه الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء للفترة الانتقالية بالنهج القومي.

استقرار النظام
الشعور السائد في الأوساط الشعبية أن نظام الحكم الديمقراطي ليس هو النظام المستقر الذي كانوا يتصورونه، هل هذا الشعور له مبرراته الواقعية؟

المجلس العسكري
كلمة مستقر تعني النظام الذي يرتكز علي مقومات الأمن وتوفير الاحتياجات الضرورية للإنسان، حرية الفكر، العقيدة وقاعدة جماهيرية كبيرة تدافع عنه بالطرق المشروعة والنظام نفسه يعمل من أجل المصلحة العامة. ولكن ظروف السودان في ذاك الوقت غير طبيعية.

الحكومة الانتقالية
ظروف السودان غير طبيعية والحكومة الديمقراطية التي أعقبت الحكومة الانتقالية بدأت من الصفر، وهذا يعني إنها قابلت صعابا كثيرة لتخطي تلك المرحلة. والمطلوب التخطيط السليم بالنأي عن العشوائية في ضوء ظروفنا وامكانياتنا حتى نصل إلى ما نصبو إليه.

التجمع الوطني
كان أمل الجماهير عظيما في أن تعي الأحزاب دروس الماضي وكانت تحلم بالاستقرار وتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم، بالذات فيما يختص بحاجيات المعيشة المباشرة بانخفاض الأسعار وتوفير المواد الأساسية بإزالة السوق السوداء.
ذلك الجو السياسي الكريه الذي كان سائداً على أيام مايو كانت الجماهير تتطلع لإزالته.

مستقبل الديمقراطية
مستقبل الديمقراطية في السودان وأين هو موقع القوات المسلحة في هذا المستقبل؟

المجلس العسكري
الواقع إننا في السودان خلال ستة عشر عاما حكم البلاد خلالها المشير جعفر محمد نميري، لم نمارس الديمقراطية على الاطلاق، وحتى فترات الديمقراطية التي عشناها لم تكن كافية لكي نمارس الديمقراطية ممارسة صحيحة ونختبرها ونستفيد من تجاربنا فيها.
ويتعين علينا أن ننأي عن العجلة متحلين باليقظة والصبر وتقبل الرأي والرأي الآخر نتحاور نتفاكر، نختلف نتفق ويكون نصب أعيننا دائما السودان محافظين علي أمنه وسلامته. أما فيما يختص بالقوات المسلحة فإن أسعد لحظاتها أن تكون آمنة وسالمة والناس تعيش حياة ديمقراطية سليمة لتكرس جهدها للتدريب والتأهيل لكي تقوم بواجبها الأساسي في حماية الوطن. يجب أن تبقى القوات المسلحة الملجأ الأخير للناس عند احتدام الخلاف لحمايتهم جميعا وما حدث في أكتوبر 1964 وابريل 1985 خير شاهد، إذ كانت القوات المسلحة هي المخرج من الأزمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى