الإنسان بين الاستخلاف والجشع: تأملات في الرزق والعمران و الحروب التي تحدث

سعيد إبراهيم تلفو
إن لله في خلقه شؤونًا، وإنّ نظرةً متأملةً في هذا الكون الفسيح تُرينا بجلاء أن الله، جلّ في علاه، لم يترك مخلوقًا دون رزق، ولم يخلق كائنًا دون أن يُقدّر له قوت يومه. يقول تعالى:
“وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها” [هود: 6]
بدءًا من الفيل الضخم الذي يهزّ الأرض بخطوه، وانتهاءً بأصغر كائن لا يُرى إلا بالمجهر، كلهم يسيرون في نظام محكم، وتوازن دقيق، لا خلل فيه ولا عبث. يأكل بعضهم بعضًا، لكن التوازن محفوظ، كأنه قانون إلهي لا يُمسّ.
لكن وحده الإنسان، ذلك الكائن الذي خُصّ بالعقل، والقدرة على التمييز، احتاج إلى رسل وأنبياء ومهديين، ليذكّروه بما فُطر عليه، ويعيدوه إلى سواء السبيل. لماذا لم يكن كالنمل، أو النحل، أو الطير؟
النملة — التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تُسبّح” — تفوق الإنسان عددًا على سطح الكوكب، ومع ذلك لا تشتكي، ولا تُلوّث، ولا تطمع، وتخزن ما يكفيها دون إسراف.
فلماذا ظنّ الإنسان أن الرزق لا يكفي؟ لماذا أراد أن يقهر الأرض وما عليها؟ لماذا أدار مصانع لا تشتغل بالوقود فقط، بل بطمع لا يشبع؟
كيف سوّلت له نفسه أن يضع موادّ سامة في طعام أخيه الإنسان، بدعوى الربح؟ كيف بلغ به الجشع أن يكدّس الذهب والفضة، وهو يعلم ما قاله الله فيهم:
“والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم” [التوبة: 34]
لقد صار الطمع دِينًا جديدًا، وعقيدة غير معلنة للذين يؤمنون بالسوق أكثر من إيمانهم بالسماء. قال ابن خلدون: “الترف مفسد للخلق، ومُضعف للهمم، ومهلك للدول”.
فما بالنا بعالمنا اليوم، حيث تُغتصب موارد الفقراء، وتُحتكر المياه، وتُنهب الأراضي، وتُشعل الحروب لا لشيء إلا من أجل الذهب الأسود، أو المعادن النادرة، أو حتى السيطرة على الأسواق؟
من أين أتى الإنسان بهذا الجشع؟
لقد قالها إبليس منذ أول لحظة:
“قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين” [ص: 82]
ومضى الإنسان في غوايته، فاخترع البارود، ثم القنابل، ثم الذرّة والنووي، ودمّر بها مدنًا كاملة، كما حدث في هيروشيما وناغازاكي، وساهم في إبادة جماعية تحت شعار “الحرب من أجل السلام”.
بل إن الحروب لم تعد فقط عسكرية، بل بيئية واقتصادية. صارت الدول الصناعية تُغرق الدول الفقيرة بمخلفات مصانعها، وتُصدّر لها غذاءً مملوءًا بالسموم، وتتحكم في سعر خبزها ودوائها.
في حين أن الله يقول:
“ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” [الأعراف: 56]
لكن الإنسان أبى إلا أن يكون “المُفسد”، حتى وهو يملك أدوات الإصلاح.
فهل الإنسان عنصر معمر أم عنصر مدمّر؟
إنه السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بصدق.
الحقيقة أن الإنسان كائن مزدوج: يحمل في داخله قابيل وهابيل، فرعون وموسى، الطاغية والرسول، الهدم والإعمار. وقد اختُبر في هذا الكوكب الصغير، وسُلّمت له أمانة عظيمة:
“إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولًا” [الأحزاب: 72]
ومع ذلك، ما زال الأمل قائمًا. ففي كل زمن، يبعث الله من يذكّر، ويوقظ الضمير، ويعيد التوازن. ففي قلوب المؤمنين، في عقول الحكماء، في كلمات الأنبياء، وفي ضمير الأرض صوت لا يخفت:
كفى طمعًا، وكفى عبثًا، وكفى إفسادًا…
فلنعمل كما تعمل النملة: بجدّ وصمت وتوازن.
ولنأخذ من الطير دروسا في الثقة بالله، الذي قال في الحديث القدسي:
“لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا”.
فيا إنسان، عُد إلى فطرتك.
إنك لم تُخلق لتكدّس، بل لتُعمر.
لم تُخلق لتدمّر، بل لتُصلح.
فهلّا كنت من الذين “يُصلحون في الأرض ولا يفسدون”؟