رأي

علاقات إسرائيل بدول الآسيان ومدى تأثرها بالحرب الإسرائيلية على غزة 4-5

د. أحمد عبد الباقي

سنغافورة

بدأت علاقة سنغافورة بإسرائيل منذ يوم إعلان سنغافورة دولة مستقلة عن ماليزيا في عام 1965، وبدأ الجيش الإسرائيلي في حينها بإنشاء وتدريب جيش سنغافورة من الصفر، حتى أصبح أقوى جيش بجنوب شرق آسيا، وبقيت العلاقات الأمنية والعسكرية سراً إلى ما يقارب الـ 40 عاماً، حتى كشف عنها مؤسس دولة سنغافورة ورئيس حكومتها الأول “لي كوان يو”، وحكى السر الأكبر بين بلاده وإسرائيل، وهو أن الجيش الإسرائيلي مؤسس للجيش السنغافوري، كما أن سنغافورة أخفت هوية القادة الإسرائيليين عن السنغافوريين، ولقّبوا بـ “المكسيكيين” تمويها خشية أن يثير وجودهم غضب المسلمين من السنغافوريين، أو دول الجوار المسلمة مثل ماليزيا وسنغافورة التي تحيط بسنغافورة التي ترتبط ارتباطا تاريخيا وتجاريا وثيقا بجارتيها المسلمتين (إندونيسيا وماليزيا) لدرجة أنها تستأجر الفضاء الماليزي والإندونيسي لتحليق طيرانها، وتستورد مياه الشرب من ماليزيا.

يعتبر جيش سنغافورة اليوم الأقوى والأكثر تطوراً في جنوب شرق آسيا، وله شراكات وتحالفات وصفقات تصنيع عسكري مع شركات إسرائيلية للصناعات العسكرية، كما أن قطاع الصناعات الجوية في سنغافورة متعاون مع شركات إسرائيلية مثل “إلبيت (Elbit) للأنظمة الدفاعية والأمنية” في مشروع تطوير مقاتلات إف-5 لسلاح الجو التركي، و لتمين أسس البحث العملي مع إسرائيل أسست سنغافورة لجنة تعنى بشؤون الجامعات والدراسات العليا زارت خلال سنوات الجامعات الإسرائيلية، وبنت معها شراكات في مجال البحث العلمي، لا سيما المجالات الهندسية والتكنولوجية كما في حالة “التخنيون” (المعهد الإسرائيلي للتقنية وهو مؤسسة أكاديمية إسرائيلية في مدينة حيفا تركز بالأساس على تدريس الهندسة، العلوم الدقيقة والطب، وتعتبر من أكبر الجامعات في إسرائيل والشرق الأوسط، ولأهميته يحتوي “التخنيون” على (19) كلية ووحدة أكاديمية، (60) معهد للأبحاث و (12) مشفى تدريبياً.

فتحت إسرائيل سفارتها في سنغافورة في عام 1969م، بينما فتحت سنغافورة سفارتها في تل أبيب في عام 2022م ومع تعاظم مركزها في آسيا، ولاستضافتها لآلاف مركز الشركات العالمية بعد عام 2005م، بدأت سنغافورة في تقديم خدماتها لشركات إسرائيلية عن طريق تسويق منتجاتها في دول تعتبرها إسرائيل ‘عدو’ أو لا تقيم معها علاقات دبلوماسية مباشرة، مثل إندونيسيا وماليزيا وبروناي، وتتحدث تقارير إعلامية عن أن شركات إسرائيلية تورد منتجاتها إلى سنغافورة، ثم يُغير تغليف تلك المنتجات حتى لا تظهر أنها إسرائيلية؛ ومن ثم يعاد تصديرها إلى دول أخرى في العالم، ومنها دول لا تقيم أي علاقات مع إسرائيل.

بالنظر إلى الموقف من حرب إسرائيل على غزة، فإن لسنغافورة أقلية مسلمة مؤثرة تبلغ نسبتها 15,6% أي ما يعادل (539,251) نسمة من إجمالي تعداد سكان البلاد الذي يبلغ 5,69 مليون نسمة (تعداد 2020)، تدعم هذه الأقلية القضية الفلسطينية بقوة، وتتعاطف معها لدرجة أنها دعت إلى قطع العلاقات مع إسرائيل وفرض مقاطعة عليها؛ بسبب حرب غزة الأخيرة، إلا أن الحكومة السنغافورية ترى أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها مع الالتزام بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي، وأرسلت الحكومة مساعدات إنسانية إلى غزة، ولعل ذلك يشير إلى قوة تأثير الأقلية المسلمة السنغافورية في سياسة البلاد الخارجية كما تتخوف الحكومة من أن يقود التضييق على المسلمين إلى جنوحهم نحو الغلو والتطرف، وربما يولد نوع من الإشكالات الأمنية في البلاد، رغم صرامة الدولة وقوتها الأمنية المدعومة بالتعاون مع إسرائيل، ولعل الحكومة حريصة على الاستقرار السياسي والدور الاقتصادي الفعال لها وسط الآسيان لذا تتجنب إثارة مشاعر المسلمين ضد إسرائيل.

علاقات إسرائيل بدول الآسيان المسلمة

إندونيسيا وماليزيا وبروناي دول مسلمة ضمن رابطة الآسيان، ولكنها ليس لها علاقات دبلوماسية مباشرة بإسرائيل، وإن كان هنالك علاقات سرية لإندونيسيا وعلاقات تجارية وسياحية مع الدولتين الأخيرتين عن طريق أطراف ثالثة (غالبا شركات متعددة الجنسيات) تتخذها إسرائيل لتعينها على الارتباط بالدول الثلاث علاوة على أن إسرائيل توظف علاقاتها مع دول الآسيان الأخرى خاصة الدول التي بها سفارات إسرائيلية مثل سنغافورة، تايلاند، فيتنام، والفلبين لممارسة نشاط استخباراتي لصالح إسرائيل في دول مثل ماليزيا وإندونيسيا وبروناي على نحو ما سنراه لاحقا في ثنايا متبقي سلسلة المقالات.

علاقات إندونيسيا بإسرائيل

ليس لإندونيسيا وإسرائيل علاقات دبلوماسية رسمية مباشرة، ورغم أنها أكبر دولة مسلمة من ناحية التعداد، ولكن بين الدولتين اتصالات تجارية وسياحية وأمنية واستخباراتية غير معلنة يعود تاريخها إلى 1968 من خلال قنوات غير رسمية (عبر إيران وتركيا الأمر الذي يشف عن عمالة وخيانة بعض الدول التي يطلق عليها إسلامية)، بدأت علاقات الدولتين غير الدبلوماسية بالتعاون العسكري منذ عام 1971م، وشمل ذلك لقاءات بين ضابط من جيشي البلدين وتدريب لأفراد الجيش الإندونيسي؛ ومن ثم إنشاء مدرسة تدريب للقوات الخاصة الإندونيسية في إندونيسيا بإشراف إسرائيلي، كما أن إندونيسيا اشترت من إسرائيل (35) طائرة مقاتلة من طراز دووكلاس إيه-4 سكاي ‌هوك والتي تسلمتها عامي 1981-198، ولإندونيسيا أيضا اهتمام بالطائرات البدون طيار الإسرائيلية الصنع خاصة طائرات IAI Searcher.

محاولات قيام علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وإندونيسيا

بدأت المحاولات لإنشاء علاقات دبلوماسية رسمية معلنة بين البلدين في عام 1999م حينما أعلن الرئيس الإندونيسي عبد الرحمن وحيد (المثير للجدل مثل ترامب أمريكا) ووزير خارجيته علوي شهاب رغبتهما في بدء علاقات مع إسرائيل، ولو على الصعيد الاقتصادي والتجاري على ضوء إجراء تغييرات شاملة في السياسات الداخلية والخارجية والدفاعية لإندونيسيا حسب ما أعلن الرئيس الإندونيسي. الذي أثار قراره الكثير من الاعتراضات الداخلية، ودعا رجال الأعمال الإندونيسيين الحكومة الجديدة إلى إعطاء الأولوية لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الدول الأوروبية والآسيوية عوضا عن الاتجاه إلى إقامة علاقات تجارية مع إسرائيل، كما رأت اللجنة الإندونيسية للتضامن مع العالم الإسلامي أن العلاقات التجارية والثقافية التي يرغب الرئيس عبد الرحمن وحيد في إنشائها مع إسرائيل هي بذور العلاقات الدبلوماسية؛ الأمر الذي أحبط جهود الرئيس عبد الرحمن وحيد وفشلها، ولم ينجح حتى سقوطه، وفي مارس 2016 دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تطبيع العلاقات مع إندونيسيا، مشيراً إلى “العديد من الفرص للتعاون الثنائي” إلى إندونيسيا رفضت ذلك مُبينة أنها لن تفكر في التطبيع إلا إذا تحقق الاستقلال الفلسطيني، وفي سبتمبر 2023م نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية تقريرا مفاده أن هنالك مفاوضات سرية جارية بين حكومتي إسرائيل وإندونيسيا لإقامة علاقات دبلوماسية، وفي 2024م نفت وزارة الخارجية الإندونيسية سعي البلاد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل الحصول على عضوية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي اشترط بعض أعضائها أن تقيم إندونيسيا علاقات مع إسرائيل لتحصل على العضوية الأمر الذي رفضته إندونيسيا رغم الضغوط الأمريكية عليها.

رغم تعرضها للضغوط الأمريكية والإغراءات الإسرائيلية، إلا أن القيادة الإندونيسية تعمل ألف حساب للشارع المسلم الإندونيسي حيث تمثل إندونيسيا أكبر دولة مسلمة في العالم من حيث التعداد، ويُقدَّر عدد سكانها الحالي بحوالي 283,488,000 نسمة، ومن المتوقع أن يزداد عدد السكان بحوالي 2.27 مليون شخص في 2025م (تعداد 2024) ويمثل المسلمون 87.06% من إجمالي السكان والبقية هندوس وبوذيين ونصارى لذلك رغم لِين بعض مواقف قادة إندونيسيا وتعاونهم السري مع إسرائيل خاصة في المجال العسكري مع إسرائيل من منظور برغماتي بحت، إلا أن الشارع الإندونيسي منفعل بعدالة القضية الفلسطينية وداعما لها، ويقف بقوة ضد الحرب الجائرة التي تتعرض لها غزة حاليا ولذا لا تجد قيادة البلاد بُدا من مسايرة الرأي العام المسلم الداخلي في إندونيسيا، وظهر ذلك جليا في عام 2023م حيث أدانت إندونيسيا بشدة القصف الإسرائيلي ضد قطاع غزة، وأصدرت وزارة خارجيتها بيانا شديد اللهجة أدانت فيه قصف المستشفى الإندونيسي في غزة كما زارت وزيرة الخارجية الإندونيسية -ضمن وفد من دول منظمة التعاون الإسلامي اُتُّفِق عليه خلال الجلسة الطارئة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في عام 2023م للتضامن مع غزة- الصين وروسيا في محاولة لكسب دعمهما لوقف إطلاق النار في غزة بحكم عضويتهما الدائمة في مجلس الأمن، وفي موسكو انتقدت وزيرة الخارجية الإندونيسية ادعاء إسرائيل بأن حربها ضد غزة دفاعاً عن النفس، ووصفت ذلك الادعاء بأنه غير مقبول، وليس مبررا لقتل المدنيين مؤكدة أن موقف وفد منظمة التعاون الإسلامي هو تحقيق السلام من خلال تبني حل قيام الدولتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى