رأي

العلمانية والدولة الدينية …أين الحقيقة في سجال النخبة؟

رمضان أحمد

تعج الأسافير هذه الأيام بجدل محموم بين النخب السياسية حول الحكم الأصلح للسودان: العلمانية أم الدولة الدينية؟ في هذا المقال نتناول موضوع العلمانية والدولة الدينية تناولاً منطقياً وعقلانياً، بعيداً عن التشنج الذي كثيراً ما صاحب النقاش حول هذا الموضوع، مع الإشارة إلى الجوانب العملية السالبة للعلمانية في التطبيق الغربي.

هناك مسائل جوهرية لابد من الإشارة إليها أولاً عند مناقشة موضوع العلمانية:

أولاً: مفهوم الدولة الدينية مفهوم غريب على العالم الإسلامي، لأن مفهوم الدولة الدينية نشأ أساساً في البلاد الغربية وإطاره الدين المسيحي. وبحكم أن الدين المسيحي يخلو تماماً من السياسة والتشريع، أقحم القساوسة الدين في السياسة لإضفاء شرعية على الاستبداد السياسي من ناحية وللحفاظ على مكانتهم الاجتماعية الدينية من ناحية أخرى. فكانت النتيجة أن هيمنت الكنيسة على الحياة وضيقت على العلماء تقتيلاً وتشريداً.

لذلك عندما تمرد الناس على سلطة الدين انفتحوا على البحوث العلمية والاستكشافات الجغرافية مما فتح الباب على مصراعيه للتطور والنهضة في الحياة العامة. أرجو أن أنوه إلى أن العيب ليس في المسيحية كدين وإنما في البشر الذين استخدموا الدين لأغراضهم الشخصية، بما فيه الدين الإسلامي.

ثانياً: ابتعاد العلمانية عن الدين وإبعادها الدين عن الحياة جعل المصلحة هي مرجعية العمل السياسي، في غياب كامل للأخلاق والقيم المجتمعية. والمصلحة هنا يحددها أصحاب النفوذ المالي الذين يهيمنون على النظام السياسي، ويجعلون السلطة المنتخبة تحت سيطرتهم. وهذا ما جعل البلاد الغربية تستعمر دول العالم الثالث وتفعل فيها الأفاعيل، من حيث قتل البشر واستعبادهم ونهب ثرواتهم. ولم تكن الشعوب الغربية هي التي حددت المصلحة التي اقتضت إخضاع الشعوب الأخرى بقوة السلاح وإنما أصحاب النفوذ هؤلاء الذين يمثلون أقل من واحد في المائة من الشعب. وحتى بعد الاستقلال ظل الغرب يشرف على الانقلابات العسكرية وأنظمة الاستبداد السياسي لضمان الولاء وانسياب المواد الخام. لذلك فإن مصلحة الغرب التي تعتبر المرجعية الأساسية لسياسة الدولة لا تسمح بقيام نظام حكم ديمقراطي في بلاد المسلمين أو العالم الثالث يستند إلى إرادة الشعب. ذلك لأن إرادة الشعب ستأتي بحاكم وطني يكن ولاءً لشعبه ويمنع هدر الموارد لصالح الدول “العظمى”. ومن هنا رأينا نماذج ديمقراطية أطيح بها في وضح النهار فقط لأن صندوق الاقتراع جاء بإرادة شعبية، كما حصل في تونس، والباكستان وفلسطين وتركيا.

المساحة المتاحة لهذا المقال لا تسمح بالتطرق لجرائم النظام العلماني في أفريقيا من حيث استرقاق الشعوب الأفريقية ونقل الناس بالملايين عبر المحيط الأطلسي في ظروف قاسية لا تطيقها البهائم، مما أدى لموت الآلاف منهم في الطريق ورميهم في البحر طعاماً للأسماك. وعلى أكتاف هؤلاء العبيد شيدت الحضارة الغربية العلمانية المادية.

ثالثاً: إن العلمانية التي يدعو لها العلمانيون في بلاد المسلمين تختلف تماماً عن العلمانية السائدة في بلاد الغرب، علماً بأن الغرب نفسه لن يسمح بإقامة نظام علماني على غرار النظام الغربي الذي يتيح للشعب أن يختار قيادته السياسية عبر صندوق الاقتراع لأنه ببساطة سيأتي بنتيجة غير مرضية للغرب. لذلك نرى العلمانيين في بلاد المسلمين متطرفين لأبعد ما يكون تجاه الإسلام، وبمجرد ما تتاح لهم الفرصة للحكم – في الغالب عبر انقلابات عسكرية أو انتخابات ملعوبة – سرعان ما يضيقون على خصومهم من دعاة المرجعية الإسلامية للدولة تضييقاً شديداً ويذيقونهم مر العذاب. وهذا ما رأيناه منذ قيام الدولة القطرية بعيد خروج الاستعمار حيث حكمت الأنظمة العربية بالحديد والنار برعاية تامة وحماية من نفس الأنظمة الغربية التي تناصر “العلمانية” والمسألة مستمرة حتى اليوم.

رابعاً: يحكم العلمانيون على الإسلام استناداً إلى تجارب جرى تطبيقها في إيران والسعودية والسودان، اعترف أصحابها أنها فعلاً لم تكن مثالية. ينسى العلمانيون أن العالم الإسلامي على امتداد التاريخ كان محكوماً بمبادئ الشريعة الإسلامية وقد أنتج المسلمون حضارة لم تسبقها حضارة ولم تأت بعد حضارة مماثلة، والفضل في ذلك يعود إلى نظرة الإسلام إلى الإنسان كمادة وروح، فضلاً عن تشجيع الإسلام للبحث العلمي واستكشاف أسرار الكون في الطبيعة والاستفادة منها لإعمار الأرض. ذلك لأن الإسلام في سياق الدولة يهتم بثلاث ركائز بدونها لا يمكن وصف الدولة بأنها إسلامية، وهي: العدالة والحرية والحقوق. وهذه القيم التي شدد عليها القرآن الكريم كمعايير لإسلامية الدولة شهدت تطبيقاً عملياً في العهد الأول من الإسلام. هذا فضلاً عن أن مبادئ الشريعة الإسلامية التي تعتبر مصدراً للتشريع في الدولة تقوم على خمسة مقاصد: حفظ الدين ، (حرية الاعتقاد)، وحفظ النفس، (الحق في الحياة) و حفظ العقل (سلامة العقل) باعتباره المميز للإنسان عن الحيوان، و (حفظ النسل) العرض والنسل ، و (حفظ المال) حق التملك.

هذه الضرورات الخمس تشمل المسلم وغير المسلم في بلاد المسلمين، وهذا هو سر انتفاء مفهوم الأقليات في تاريخ العالم الإسلامي لأن الأقليات كانت تتمتع بكامل الحقوق وعقائدها مصونة.

خامساً: يجب فصل الديمقراطية عن العلمانية. فالدولة يمكن أن تكون ديمقراطية ذات مرجعية نابعة من قيم الشعب وموروثاته الدينية التي تشكل المرتكزات الأخلاقية للشعب. وبالتالي فإن جعل العلمانية ملازمة للديمقراطية فيه كثير من التعسف، خاصة إذا أدركنا أن دساتير العديد من الدول الأوروبية تنص صراحة على مرجعية مذهب ديني معين في المسيحية للدولة، بالإضافة إلى أن العديد من الدساتير الأوروبية استندت إلى المذهب المالكي وبصفة خاصة الدستور الفرنسي.

ويجب أن نفرق أيضاً بين الدولة في سياق الإسلام وبين الدولة العلمانية. فالدولة في الإسلام كيان هامشي بينما المجتمع هو المركز. وبالتالي فإن الحاكم في الإسلام هو خادم للمجتمع، يخضع للمساءلة، بعكس النظام العلماني الذي يعتبر الشعب خادماً للدولة وللدولة الحق في التدخل في ادق تفاصيل حياة الناس. هذا فضلاً عن أن الدولة العلمانية تحارب فكرة الجماعة وتشجع الفردانية وتتعامل مع المواطن الفرد كأداة من أدوات الإنتاج، بحيث يسهل على الدولة السيطرة على الأفراد لدرجة أنها يمكن أن تجرد المواطن من حق المواطنة، فضلاً عن كونها تستعبد المواطن حرفياً. وفي سبيل التحكم في الأفراد تعمل الدولة العلمانية على محاربة كيان الأسرة بطريقة غير مباشرة من خلال تشجيع العلاقات بين الجنسين خارج أطر الزوجية فضلاً عن كونها تضيق على الزواج من خلال قوانين تنفر الشباب من الزواج.

الدولة في الإسلام تتعامل مع المواطن الفرد كقيمة بمعزل عن أي اعتبارات مادية، وتسهل الزواج وتشجع بناء الأسرة وتعتبر الأسرة نواة المجتمع وتبث قيم التراحم والتكافل المجتمعي عبر الزكاة والصدقة والكفارة وفطرة الصائم وما إلى ذلك من أنواع التكافل المجتمعي مما ينزع الحقد والكراهية والحسد.

بالنظر إلى فشل الحداثة في الوفاء بما وعدت به المواطن من رفاهية العيش وعدالة وحرية، برزت أصوات قوية مؤخراً في الغرب تدعو إلى أهمية العودة إلى الدين. لا يسع المجال لذكر أسماء العلماء الذين نادوا ولا زالوا ينادون بضرورة أن يكون للدين دور في الحياة السياسية لبعث الأخلاق والقيم التي اندثرت مع المادية الشديدة.
أبرز هؤلاء العلماء شارلس تيلور Charles Taylor (b. 1931) وجون راولس John Rawls (1921–2002) وجوغن هابرماس Jürgen Habermas (b. 1929) ووائل حلاق وغيرهم كثير من علماء الغرب الذين رأوا أن العلمانية تجردت من الدين والأخلاق وجعلت الحياة مادية بحتة.

خلاصة القول أن العلمانية لم تحقق الرفاه الإنساني حتى الآن في المجتمعات الغربية، إذ ما زال الإنسان الغربي يئن تحت وطأة المادية البحتة ويشتغل ليلاً ونهاراً حتى يوفي بمستلزمات الحياة، والدليل على ذلك ارتفاع حالات الانتحار وسط الأثرياء، ناهيك عن أن البلدان النامية والفقيرة ما زالت تعاني من ظلم النظام العالمي العلماني الذي يدعم أنظمة الاستبداد السياسي والانقلابات العسكرية ويثير التوترات ويشجع الإبادة الجماعية في غزة وغيرها، فضلاً عن تجويع الشعوب بغية تركيعها. وبالتالي لا يعتبر هذا النظام العلماني مثالياً للبشرية حتى الآن.

وعلى ضوء هذه الحقائق يجب على الشعوب عموماً والشعب السوداني خصوصاً العمل على ابتكار نظام سياسي يستند إلى القيم الدينية والموروثات المجتمعية والأعراف، بما يحقق العدل ويتيح الحريات للمواطن ويحقق الحياة الكريمة للمواطن عبر تفجير الطاقات البشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى