قراءة في حديث الفريق أول كباشي حول الشرطة

عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
أمس، صرّح السيد الفريق أول شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة، قائلاً: “إن المناطق التي تمت السيطرة عليها ونظافتها بشكل كامل يجب أن تؤول الأمور الأمنية فيها إلى الشرطة”. هذا التصريح الموجز يعكس فهماً عميقاً لمسؤوليات مؤسسات الدولة وأدوارها التكاملية، ويعبر عن رؤية استراتيجية دقيقة لإدارة الأمن الداخلي بعد العمليات العسكرية، وفق ما تقره الأعراف الدستورية والقانونية في الدولة السودانية.
كلمة “تؤول” في اللغة تعني ترجع، تنتقل، تنتهي إلى. أما في السياق الاصطلاحي، فتُستخدم للإشارة إلى انتقال الصلاحيات أو المسؤوليات من جهة إلى أخرى بشكل منظم وشرعي. وفي السياق الأمني، حين نقول إن “الأمور تؤول إلى الشرطة”، فإن المقصود هو عودة المهام الأمنية والإدارية في المناطق المحررة إلى الجهة المختصة بحفظ الأمن الداخلي، وهي الشرطة، بعد أن تؤدي القوات المسلحة دورها في التحرير والتأمين الميداني.
هذا التصريح يتّسق تماماً مع النصوص الدستورية والقانونية، وعلى رأسها الوثيقة الدستورية لسنة 2019 م تعديل 2025 م و قانون الشرطة لسنة 2008م، وقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م وغيرها من القوانين الأخرى، وبالتالي فإن دعوة الفريق كباشي تعكس احتراماً واضحاً للتسلسل المؤسسي، وتؤسس لمرحلة التحول من الميدان العسكري إلى الميدان المدني القانوني، وهو ما يمثل أساس الاستقرار الدائم.
هذا الانتقال لا يتم تلقائياً، بل يتطلب جهداً جماعياً من أربعة أطراف رئيسية: الدولة، والشرطة، والمواطن، وضباط الشرطة المتقاعدين. فالدولة مطالبة بتمكين الشرطة إدارياً وسياسياً عبر إصدار توجيهات واضحة للسلطات المدنية والمحلية لتسهيل عمل الشرطة، وتوفير الدعم اللوجستي والمادي من عربات ووقود ووسائل اتصال ومقرات بديلة، وتأمين البيئة القانونية من خلال تفعيل القوانين أو إصدار أوامر طوارئ تدعم مهام الشرطة، وتعزيز التنسيق بين الأجهزة بحيث لا تتقاطع أو تتنازع الصلاحيات بين الجهات الأمنية المختلفة.
أما الشرطة فعليها أن تكون جاهزة مهنياً وتنظيمياً من خلال إعداد خطط انتشار مؤقتة وطويلة المدى، وتدريب أفرادها على إدارة الأزمات ما بعد الحرب، والتنسيق مع القوات المسلحة لضمان استلام منظم للمناطق وتبادل المعلومات الاستخباراتية، واستعادة الخدمات المدنية كخدمة البلاغات، حماية الممتلكات، وتنظيم الأسواق، وعودة المرور، الجوازات، السجل المدني، المباحث، الدفاع المدني، السجون، حماية الحياة البرية، والجمارك. كما أن عليها تفعيل التواصل المجتمعي لتطمين المواطنين وتعزيز الثقة عبر الرسائل الإعلامية والإجراءات الميدانية المدروسة.
ومن جانب المواطن، فإن التعاون مع الشرطة بالإبلاغ عن أي مظاهر تفلت أو عناصر مشبوهة، واحترام القانون وهيبة الدولة، والابتعاد عن التحريض أو التعدي على الممتلكات العامة والخاصة، والمساهمة المجتمعية عبر لجان أو مبادرات لإعادة تشغيل أقسام الشرطة، كلها ضرورات لا غنى عنها.
وفي مثل هذه المراحل المفصلية، يظهر دور ضباط الشرطة المتقاعدين كرافعة خبرات لا غنى عنها، فهم يحملون تراكمات مهنية ومعرفية يمكن أن تسد فجوات غياب الكوادر أو ضعف الجاهزية. يمكنهم تقديم الدعم الاستشاري والتدريبي، والمساهمة في تدريب المستجدين، والوساطة المجتمعية في مناطق التوتر، والمشاركة التطوعية في أعمال إعادة تأهيل الأقسام. هؤلاء ليسوا خارج الخدمة، بل هم داخل ذاكرة المؤسسة الأمنية، وإذا تم استدعاؤهم بشكل منظم ومدروس، فسيشكلون أحد أعمدة الانتقال الآمن من الحرب إلى الاستقرار.
حين “تؤول الأمور إلى الشرطة”، فإننا أمام لحظة فارقة في مسار استعادة الدولة لعافيتها؛ لحظة يتحول فيها الانتصار العسكري إلى استقرار مجتمعي وقانوني. وهذا لا يتم إلا بتكامل أدوار الدولة، وجهوزية الشرطة، وتعاون المواطنين، ومبادرة ضباط الشرطة المتقاعدين. إنها دعوة لبناء الثقة من جديد، وبداية الطريق نحو السلام المستدام، لا بقوة السلاح فقط، بل بقوة القانون أيضاً.