التفكير قصير المدى

د. إسماعيل ساتي
في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية التي أحاطت ببلادنا لعقود، يلجأ كثير من الناس إلى حلول قصيرة المدى (Short-term) لتجاوز الأزمات اليومية. ورغم أن بعض هذه الحلول قد تكون استجابة واقعية لظروف قاسية، إلا أن الاعتماد المستمر عليها يُفاقم المشكلات على المدى البعيد، ويُضعف فرص الخروج من دوامة الأزمات.
تُعد سمة “التفكير شورت تيرم” أكثر وضوحاً في السلوك الجمعي السوداني مقارنةً بكثير من الشعوب الأخرى (إلا من رحم ربي)، وإليك بعض المؤشرات الدالة على ذلك:
• ضعف الاهتمام بالبحث العلمي أو المشاريع التراكمية التي تتطلب سنوات لتحقيق نتائج ملموسة.
• العزوف عن الاستثمار في مشاريع البنية التحتية طويلة الأجل (كالزراعة والصناعة) مقابل الاعتماد على حلول مؤقتة كاستيراد الغذاء.
• التركيز على “الحلول السريعة” للمشكلات بدلاً من معالجة جذورها (مثل الاعتماد على المساعدات الخارجية بدلاً من بناء اقتصاد منتج).
• الاعتماد المفرط على الإغاثة الإنسانية دون خطط مجتمعية للاكتفاء الذاتي (مثل إعادة تأهيل الزراعة المحلية وتحديث تقنياتها).
• إهمال صيانة المرافق العامة حتى تنهار تماماً، رغم أن الصيانة الوقائية البسيطة كانت كفيلة بإطالة أعمارها.
• اختيار الشباب لتخصصات أو وظائف ذات عائد سريع بدلاً من التخطيط لمسارات مهنية طويلة الأجل.
• اغتراب الشباب لدول الخليج والعمل في مهن هامشية لا تتناسب مع مؤهلاتهم الدراسية وخبراتهم المهنية (كالرعي)، سعياً وراء دخل مضمون لكنه محدود و “شورت تيرم”.
• هجرة الشباب عبر طرق خطرة (كالعبور من ليبيا أو البحر المتوسط) بحثاً عن فرص سريعة، رغم ارتفاع مخاطر الفقد والموت.
• انسحاب الطلاب من التعليم للعمل في مهن مؤقتة (كبيع الماء أو قيادة الركشة) لمساعدة أسرهم. وهي أعمال نبيلة، لكنها تبقى قصيرة الأمد من حيث الأثر التنموي.
• الإنفاق على المناسبات الاجتماعية (كالزواج والعزاء) بمبالغ تفوق القدرة المادية للأسرة، بسبب الضغوط الاجتماعية أو السعي وراء المظاهر.
• الميل إلى الاستهلاك الفوري بدلاً من الادخار أو الاستثمار طويل الأجل، بما في ذلك شراء الكماليات غير الضرورية.
• تغيّر مواقف بعض الأحزاب السياسية بشكل متكرر وفقاً للمصالح الآنية، عبر تحالفات مؤقتة تفتقر إلى رؤية استراتيجية.
• انتشار أمثال شعبية تعكس الذهنية قصيرة المدى، مثل: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، أو “أحييني اليوم وأمتني بكرة”، أو “ضع الرحمن في قلبك”، أو “توكل على الله” (الذي يُساء استخدامه أحياناً كمبرر لغياب التخطيط).
رغم أن بعض هذه الأمثال تُظهر مرونة السودانيين وقدرتهم على التكيف مع الأزمات، إلا أنها تحوّلت إلى عادات دائمة حتى في غياب الضرورة.
*أولاً)* دعونا نستعرض فيما يلي تحليلاً موجزاً لبعض جذور ثقافة الـ”شورت تيرم” لدى السودانيين:
*تأثير البيئة الطبيعية والاقتصاد التقليدي*
• اعتماد المجتمعات السودانية تاريخياً على الزراعة المطرية والرعي، جعل نمط الحياة مرهوناً بالفصول والمطر، مما رسّخ ثقافة الترقب ورد الفعل بدلاً من المبادرة والتخطيط.
• غياب الاستقرار المناخي (جفاف/مطر) قلّل من جدوى الخطط طويلة الأجل.
*عدم الاستقرار السياسي*
• توالي الحكومات المدنية والانقلابات العسكرية والثورات الشعبية بشكل متكرر منذ الاستقلال، خلق انعدام ثقة في المستقبل وفي الاستمرارية المؤسسية.
• نشأ عن ذلك شعور عميق بأن التخطيط للمستقبل قد يكون بلا جدوى: “خططك قد تذهب هباءً، فاستمتع باليوم.”
*الثقافة الشفهية وتوارث الأمثال*
• المجتمع السوداني يعتمد بدرجة كبيرة على التناقل الشفهي للأفكار، وتلعب الأمثال الشعبية دوراً مهماً في تشكيل أنماط السلوك، كثير منها يُعزز التفكير الآني.
*سوء فهم المفاهيم الدينية*
• تُفسَّر بعض المفاهيم الدينية خطأً، مثل “توكل على الله”، لتُستخدم كمبرر لغياب السعي والتخطيط، فيتحول التوكل إلى تواكل.
*ثانياً)* آثار التفكير قصير المدى:
*في السلوك الاجتماعي*
• الكرم الزائد ولو على حساب الحاجة الشخصية، مثل “أكرم الضيف ولو على حساب عيالك”، ما يؤدي إلى اختلال التوازن الأسري.
• ضعف ثقافة الادخار والتأمين، سواء على المستوى الشخصي أو العائلي.
*في السلوك الاقتصادي*
• تفضيل الاستهلاك الفوري عند توفر المال على الاستثمار، وإن وُجد استثمار، فغالباً في أبسط صوره مثل شراء العقارات، دون التوجه إلى مشاريع إنتاجية ذات مخاطر أعلى وعوائد أكبر، مما يؤدي إلى دورات من الوفرة المؤقتة تتبعها أزمات.
• ضعف التوجه نحو المشاريع المستدامة طويلة الأجل، وسيادة الطابع العشوائي على النشاط التجاري.
• الميل إلى الربح السريع (كالسمسرة والتجارة الموسمية) على حساب المشاريع ذات الأثر العميق والمردود المتراكم.
*في الإدارة والتنظيم*
• القرارات الإدارية في الغالب ردّ – فعلية (Reactive) وليست قائمة على تخطيط استراتيجي.
• ضعف بناء الرؤية المستقبلية والتخطيط المؤسسي، خاصة في المؤسسات العامة.
• مقاومة التغيير المؤسسي، مثل مشروعات التحول الرقمي، لأنها تفرض نمط تفكير بعيد المدى يتعارض مع الذهنية الآنية.
*ثالثًاً)* كيف نتجاوز التفكير شورت تيرم؟
1. التعليم والتثقيف: غرس مفاهيم التخطيط والادخار والاستثمار منذ المراحل المبكرة من التعليم، من خلال المناهج والأنشطة التربوية.
2. إعادة تأويل الأمثال الشعبية: مثلاً إعادة فهم “توكل على الله” ليعني: بعد أن تعقلها، فتخطط وتبذل الأسباب.
3. تعزيز النماذج الناجحة: تقديم قصص حقيقية لسودانيين ومؤسسات اتبعوا التفكير الاستراتيجي وحققوا نتائج مستدامة.
4. إدماج الفكر المنظومي والتفكير الاستراتيجي في تدريب القيادات والمؤسسات:
عبر تضمين مبادئ الفكر المنظومي في برامج تطوير القيادات وصُنّاع القرار، مما يساعد على فهم العلاقات المتشابكة داخل المؤسسة وخارجها، والتفكير في الأثر بعيد المدى للقرارات. ويشمل ذلك استخدام أدوات مثل نماذج السببية (Causal Loop Diagrams) وتحليل السيناريوهات، وربط الأهداف التشغيلية بالأهداف الاستراتيجية. يُعزز هذا التوجه القدرة على التنبؤ بالمشكلات وتصميم حلول شاملة ومستدامة، بدلاً من الاعتماد على حلول مؤقتة “شورت تيرم”.
5. تحفيز السلوك طويل الأجل: عبر توفير حوافز حكومية أو مؤسسية للادخار، والاستثمار في التعليم والتدريب المهني، ودعم المشاريع الصغيرة ذات الأثر التراكمي وإنشاء حاضنات لها.
*ختاماً*
الحديث عن “التفكير قصير المدى” في السودان لا ينبغي أن يُختزل في نقد ثقافة فردية أو جماعية، بل ينبغي أن يُفهم في سياقٍ أوسع شكّلته سنوات طويلة من الأزمات والضغوط. ومع ذلك، فإن بناء مستقبل أفضل، حتى في ظل أصعب الظروف، يظل ممكناً عبر تعزيز نماذج النجاح وزرع الوعي وتغيير الأدوات التي نفكر ونتصرف بها. فبين صبر اليوم ورجاء الغد، هناك دائماً متسع لصناعة أفق جديد.