المقومات المؤسسية للدولة الإسلامية

د. حسن عيسى الطالب
ورد في بعض الدراسات الأكاديمية، التي تعتمد المعايير العلمانية المادية الكمية كأساس لنجاح الدول، أن بعض دول الغرب غير الإسلامية تطبق قيّم الإسلام بنسب أفضل من كثير من رصيفاتها الإسلامية.
وهذا دجل فاضح، وجهل شائع بالفقه الرسالي التوحيدي، ولا أساس له في ميزان الشرع الإسلامي، ومقاصد الشريعة الهادية.
فالدولة الإسلامية مواصفاتها المؤسسية العامة وردت في الآيات القرآنية:
“الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر”.. وفي قوله تعالى:
“وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم يعبدونني لا يشركون بي شيئا”.. وقوله تعالى: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون”..
هذه هي محددات قيّمية ضرورية لواجبات الدولة الإسلامية المؤسسية. وأساسها قائم على مبدأ الإيمان بوحدانية الله وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولا تفريق بينهما.
هذه هي البنيوية الهيكلية للدولة. وهذا هو الفقه الذي أفتى به، واعتمده وقاتل عليه أبوبكر الصديق، خليفة المسلمين الأول ورئيس الدولة، مانعي الزكاة من الأعراب، ورميهم بالردة، وقتالهم حتى رجعوا مذعنين.
فالدولة الإسلامية ليست مجرد متعة دنيوية، وتسابق مع الآخرين للاستمتاع بزهرتها ومتاعها. لأن مبنى ومقتضى الإيمان هو العمل في الدنيا، وقطف الثمرة والجزاء في الآخرة.
بل هي دولة رسالية مقاصدية، لإعلاء القيّم والمنهاج، وفق رؤية قاصدة، تستشرف مسار راشد على هدى مستقيم، لسوق الناس أفواجا ليدخلوا في حصن لا إله إلا الله.
ولهذا السبب فقد كانت دولة الإسلام في بادئ أمرها ضعيفة، ومواطنوها مستضعفون جوعى، يخافون أن يتخطفهم الناس، وكان الرسول والصحابة يشدون الحجارة على بطونهم لمجاهدة ألم الجوع والمسغبة. ليس ذلك لفشلهم وكسلهم في جمع حطام الدنيا، ولا لهوانهم عند الله، ولكن نتيجة للإبتلاء الإلهي القدري، ليُعلَم المؤمنون من المنافقين، وأهل العاجلة المرجفين من الصابرين المحتسبين.
فكان من المسلمين من تنازل عن كل ممتلكاته وثروته بمكة ليلحق بدولة المدينة التي بدأت تتشكل، وجاء الأمر للمسلمين بالولاء والنصرة، والحضّ على الهجرة، مثل صهيب بن سنان الرومي، الذي نزل فيه قوله تعالى: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله”، فلم بلغ المدينة لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم فبشّره بقوله: “ربح البيع أبا يحي”..
تُضاف إلى المقومات آنفة الذكر، فريضتا العدل والشورى. وقد وردت الآية: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” .. والمقصود بالناس هنا، كل الناس، وبلا تمييز، كافرهم ومؤمنهم. وقد طبق ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة، فرد مفاتيح البيت الحرام من قبل القوة الغالبة المنتصرة إلى أصحابه السابقين، عثمان بن طلحة وآله، الذين لم يكونوا في عداد المسلمين المهاجرين وقتها. وكان العباس عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم يرغب أن يُعطاه ليضم لشرف سقاية الحجيج سدانة بيت الله الحرام.
الفريضة المؤسسية الأخرى الواجبة للدولة الإسلامية هي الشورى. وقد ورد الأمر بها لمن يأتيه الوحي من فوق سبع سنوات، في قوله تعالى: “وشاورهم في الأمر”.
هذه هي القيّم المؤسسية البنيوية العامة والملزمة التطبيق لقادة الدولة الإسلامية.
ونظرا للضعف الذي انتاب المسلمين منذ عصور الإنحطاط، والإنكسار التشريعي والقانوني والمفاهيمي أمام دول الغرب الصليبي، والإنبهار بالحضارة العلمانية اللادينية، المتأثرة بسلوك الكنيسة المسيحية الفاجرة في القرون الوسطى، وعصر التنوير، ونبذ الدين المسيحي من قبل العلماء والمثقفين والإصلاحيين الإجتماعيين عندهم جملة وتفصيلا، ورفضهم أن يكون الدين دستورا للدولة، نظرا للمعارك الدموية التي اختلقها رؤوس وأكابر الكنائس المتناحرة عندهم، فُرض ذلك النظام على المسلمين من قبل الإدارة الاستعمارية الغازية وبالقهر العسكري، دون رأي ولا مشورة من أهل البلاد المستعمَرين.
ثم جاءت دولة ما بعد الإستقلال، فتعددت وتفاوتت نسب ودرجات التطبيقات للشريعة الإسلامية من دولة لأخرى، على الرغم من أن معظمها تضع في ديباجة دساتيرها عبارة: ‘بسم الله الرحمن الرحيم’ وأن الدستور يعتمد الشريعة الإسلامية كأساس للتشريع.. ولذا جاء في ذيل آية الإستخلاف: “يعبدونني لا يشركون بي شيئا” .. والمقصود بالشرك في هذا المقام، ما يصاحب سلوك الأئمة الغالبين على الأمر، ورؤساء الأمة، من تهاون وتناسي في تحكيم بعض أمور الشريعة. نظرا لأن الآية جاءت في مخاطبة مؤمنين مُستَخلفين، آمنوا وعملوا الصالحات، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولكنهم يشركون مع أحكام الشريعة أهو اءهم في ممارسة الحاكمية، كالتساهل في تطبيق بعض الحدود الشرعية، مثل عدم الإلتزام بحدود الميراث، وأحكام الزواج والطلاق، وقطع يد السارق. فهذا كله شرك، لأنهم أشركوا أهواءهم مع ما أنزل الله، فنقص من إيمانهم بقدر ما نقصوا من أحكام الله. لكنه شرك لا يخرجهم من الملة ولا يدخلهم في الشرك الأكبر، الذي يجعل صاحبه مع الله آلهة أخرى، ولكونهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولكنه شرك دون شرك، كما ذهب إلى ذلك حبر الأمة، وترجمان القرآن، عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، في تفسيره لآيات الحاكمية التي وردت في سورة المائدة.