رأي

حرب السودان: جدلية الانتصار، والهزيمة:

أ.د. الخاتم عبد الرحمن أبو الحسن

لئن كان متمردو قوى الحرية والتغيير بشقيها المدني، والعسكري يسوِّقون للسؤال عمن أطلق الرصاصة الأولى في الحرب، ويريدون أن يبنوا مشروعا سياسيا على أرضية هذا السؤال؛ مشروعا يستدعي تحقيقا دوليا، لئن كانوا يريدون ذلك، فإن الشعب السوداني يسأل، وبإلحاح: لماذا تأخر الجيش عن إطلاق الرصاصة الأولى، وهو المسؤول عن حماية الدستور، وقد كان يرى الأصابع الأجنبية تحرك في دُمى المتمردين بشقيهم؛ للإجهاز على السودان الدولة، وليس الحكومة، ولئن كانت هناك مطالب بالتحقيق، فلن تكون في غير التأخر في التصدي للأعداء من الأجانب وعملائهم ممن عاثوا الفساد في كل مناحي الحياة.

عند بداية المعركة لم يكن هناك من يشك أنها بدأت بأفضلية للمتمردين عَددا، وعُددا، بالإضافة لأفضلية السبق للارتكاز في الأماكن الحيوية؛ حيث كان التخطيط لهذه الحرب قد بدأ من وقت مبكر، فكان أن بنى المتمردون أحلافا إقليمية، ودولية تضمن لهم استمرار الإمداد، وسد الحاجة للإخلاء عند الضرورة، بالإضافة لفرق الإسناد السياسي، والدبلوماسي.

أدرك الجيش من أول وهلة أن الهدف المتفق عليه بين أطياف الحلفاء في الداخل، والخارج هو تفكيك الجيش، وبعد ذلك لكل منهم وجهته؛ فالكل يسعى لهندسة واقع سوداني يحقق أهدافه من وجهة نظره..

لم يفت على قادة الجيش أن تفكيك الجيش محصلته النهائية هي زوال الدولة، وتفرق جغرافتيها بين المتربصين، وتشتت شعبها بين الملاجئ، فكان لا بد من وضع خطة لإدارة المعركة بعقل بارد، وخطوات واعية، وقد كانت هذه الخطة ذات ثلاثة أضلاع كما يأتي:

أولا: تعزيز الالتفاف الشعبي العارم مع الجيش، وضد المليشيا:

لقد كانت هذه المهمة صعبة، وسهلة في آن واحد؛ فهي صعبة، لأن حلفاء المليشيا المدنيين كانوا قد صوروا الحرب، وكأنها صراع بين جناحين في الجيش طمعا في كراسي السلطة، وذلك حتى يقف الشعب موقفا محايدا في الحرب؛ فيخسر الجيش أهم مصادر قوته، وهي حاضنته الشعبية، وحتى تنجح تلك المساعي، أطلقوا حملة لا للحرب، التي كانت تمثل تغليفا جميلا لهذه الخطة القاتلة، وقرنوا كل ذلك مع غطاء إقليمي، ودولي، تَمَثل في الدعم المباشر في عمليتي الإمداد، والإخلاء، وكذلك الإسناد الإعلامي، المصاحَب بصمت مطبق عن كل الانتهاكات التي ترتكبها المليشيا، أو قرْن الجيش معها إن لم يكن هناك بد من الحديث عنها.

كما أن هذه المهمة كانت سهلة؛ لأن المليشيا كانت قد شنت الحرب على الشعب أكثر مما تفعل مع الجيش، فقد بلغت المدى في انتهاك حرمة الدماء، والأعراض والأموال، مع حرص غبي على توثيق كل ذلك باعتباره انتصارات لها، فكان على الجيش فقط التركيز على إعلان ذلك في بياناته الرسمية، فلا تكاد تجد في بيان للجيش شيئا غيرها؛ مما عمق البغض لهذه المليشيا، وأحكم الالتفاف حول الجيش، حتى انه لا يطفو إلى سطح الأحداث حديث عن تفاوض، إلا وتعلو الأصوات الرافضة من كل أطياف الشعب، مع التربص الشعبي بحلفاء المليشيا في مَهَارِبِهم للإيقاع بهم، وعلى نقيض ذلك، لا يظهر قائد من قادة الجيش، أو أي فرد من أفراده، إلا ويعلو الهتاف المؤيد، وزغاريد النساء، وهكذا أنجز الجيش مهمته الأولى بنجاح، ولم يبقَ عليه إلا المحافظة عليها..

ثانيا: المحافظة على الدولة:

إن أول ما سعت إليه المليشيا المتمردة، وحلفاؤها هو اختطاف الدولة، وفرض الوصاية السياسية على الأغيار السياسيين، وأعني بالأغيار كل ما سوى المليشيا والقوى المتحالفة معها، وقد بدأوا في فرض هذه الوصاية بتوقيعهم على الاتفاق الإطاري، ورفض أي تعديل عليه يمكن غيرهم من المشاركة فيه بحجة واهية، ومضحكة، وهي عدم السماح بإغراق العملية السياسية، وهذه الحجة الواهية كانت تمثل المخدر الذي حُقِنوا به حتى يساقوا، ومعهم كل البلاد إلى هذا الواقع الذي تعيشه الآن، فتحت سكرة التأييد الدولي الظاهري رفضت المليشيا، وحلفاؤها كل مساعي ضم بقية القوى السياسية إلى الاتفاق الإطاري، وفي محاولة للي ذراع الجيش، شرعوا في عقد ورشهم التي نص عليها الاتفاق الإطاري حتى وصلوا إلى موضوع دمج الدعم السريع في الجيش، ولأنه أصبح أداة قحت العسكرية، ويده التي تبطش بها تواطئوا معه ليكون الدمج في عشر سنوات، وألا يتبع للقائد العام للقوات المسلحة، ولم يكن أمام الجيش من بد من رفض التوقيع، فكان التهديد بإشعال الحرب لإرغام الجيش على التسليم، ثم إشعال الحرب التي ظلوا يعدون لها منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير، وكان ترويض الدعم السريع، أو إرغامه على الانضمام لمعسر قحت هو آخر لبنة في بناء خطة اختطاف الدولة السودانية.

كانت الأيام الأولى للحرب غاية في الصعوبة بسبب هول الصدمة، والإعداد الجيد للحرب من قبل المليشيا، وحلفائها، لكن بعد توفيق الله، والتخطيط الموفق تم إجهاض هذا الهدف بإعفاء حميدتي من منصب نائب رئيس مجلس السيادة، وتسمية مالك عقار في هذا المنصب، وشروع الحكومة في ممارسة مهامها من بورتسودان، ولقد كان اختيار مالك عقار موفقا جدا؛ حيث أغلق كثيرا من أبواب مناهضة الحكومة، ثم كان تماما على ذلك خروج رئيس مجلس السيادة في عملية جريئة، وتوليه أمر الحكومة؛ حيث أضفى ذلك الخروج حيوية على الحكومة خاصة بزياراته الميدانية، والدولية المتكررة، وريدا رويدا مات مشروع اختطاف الدولة.

بقي أمر آخر هو أيضا في غاية الخطورة؛ وهو المحافظة على الشرعية الخارجية للحكومة، فقد عملت المليشيا مع حلفاء خارجيين على سحب هذه الشرعية، تحت غطاء ان البرهان لا شرعية لديه بعد انقلابه على حكومة حمدوك، صرح بذلك الرئيسان الإثيوبي، والكيني، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، لكن كان للجهود الجبارة التي بذلتها الخارجية السودانية خاصة بعثتها في الأمم المتحدة، وكذلك الدبلوماسية الرئاسية التي نشط فيها رئيس مجلس السيادة، ونائبه كان لها الأثر البالغ مع الصبر في المحافظة على الاعتراف الدولي القائم بالحكومة، ثم تحولت الحكومة بعد ذلك إلى الهجوم بعد أن كانت تلتزم الدفاع؛ فكان تجميد مباشرة إيقاد للاضطلاع بالقضية السودانية قاصمة ظهر للتدخل الإفريقي، ومناصرته للمليشيا، ثم فضح الدور الإماراتي، والتشادي، والجنوب سوداني، وباقي الأدوار الإفريقية إيذانا ببدء انحسار ثوب العزلة، وكشف غطاء دعم المليشيا، وما يزال الطريق طويلا في هذا الأمر.

ثالثا: المحافظة على الجيش:

 وعند الحديث عن المحافظة على الجيش لا بد من المرور على محورين أساسين في إطار تحقيق هذا الهدف هما:

الأول: المحافظة على القوة المادية:

ففي بداية هذه الحرب فقد الجيش الاغلبية الساحقة من قواته البرية في عملية التمرد، حيث كان الدعم السريع يمثل أساس هذه القوة، وهيكلها العظمي، فلما وقع التمرد، لم يبقَ من مشاة الجيش إلا القليل، ممن لا يقارن عددهم بأعداد الدعم السريع؛ تمردوا بكامل عتادهم، فكان لزاما على الجيش العمل على إدارة المعركة بهدوء، وتعقل لتحقيق أقل خسارة في قواته، وحتى يكسب وقتا لتعويض الفرق في الأعداد بينه، وبين المتمردين.

لم يكن من الحكمة، والحال هذا الاندفاع في المعركة، فذلك يعني إبادة كامل ما تبقى من قوات المشاة، خاصة في ظل تمركز قوات القنص التابعة للمتمردين في البنايات العالية، مع السبق إلى الأماكن ذات الأفضلية في أرض المعركة، فكان القرار المدروس باعتماد سياسة دفاعية تستدرج المتمردين ثم تقوم بحصدهم بواسطة المدفعية، وسلاح الطيران، والمسيرات، فأحدثت في صفوفهم خسائر بعشرات الآلاف في غضون الشهور الأولى من المعركة، كما عمل الجيش على تخفيف الضغط عليه باستدراج المتمردين للانتشار الجغرافي الواسع تحت عناوين أوهام تحقيق الانتصارات، ثم عزل كل قوة عن بقية القوات، وتقطيع أوصالها، ورغم الخسائر البشرية، والمادية هنا، وهناك، وترويع المواطنين في كل الأماكن التي دخلها المتمردون، وما يزالون فيها، إلا أن ذلك جعل المتمردين يفقدون ميزة التفوق العددي بشكل متدرج، لكنه سريع، وبموازاة ذلك كان الجيش يقوم بالاستنفار، والانتقاء من المستنفرين لأصلب العناصر، وأقواها، حتى استطاع بناء قوة تفوق أعداد قوة التمرد، كل ذلك صحبه عمل دؤوب لقطع طرق الإمداد الخارجي، والداخلي عن التمرد، فكان التدمير شبه المبرم لكل قوة يراد إلحاقها بالمتمردين من دارفور، أو من دول الجوار، ولولا قيود القانون الدولي، وتقديرات سير المعركة لطال الطيران مطارات الإمداد الخارجية في المدن الحدودية لبعض الدول.

ثم إن الجيش، وفي إطار السعي للمحافظة على قوته المادية نجح كذلك في المحافظة على تفوقه النوعي في التسلح، فلم يفرط في سلاح المدفعية، ولا سلاح الطيران اللذَيْن يعطيانِه أفضلية ليس على قوات متمردي الدعم السريع، بل حتى على معظم جيوش الإقليمين؛ العربي، والإفريقي، كما إنه نجح في تعزيز هاتين القوتين بشكل واضح أثناء سير المعركة.

الثاني: الالتزام:

حينما تذكر الجيوش النظامية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الالتزام، ويقصد بالالتزام التقيد بالقوانين، والاتفاقيات الدولية الضابطة للأعمال العسكرية؛ فمن المعلوم أن كل جيش نظامي يستند في وجوده على دستور بلاده الذي يؤسس لشرعية وجوده، ويؤطر القانون عقيدته، وعلاقته بباقي مؤسسات الدولة، وينظم أعماله في المعتاد، هذا القانون يبين تفاصيل نشاطاته في حالة السلم، والحرب، والمخالفات، وجزاءاتها، كما أن هناك اتفاقيات دولية تكمل القوانين الداخلية للدول في ضبط الأعمال العسكرية؛ من أهمها القانون الدولي الإنساني الذي ينظم التعامل مع المدنيين، والأعيان المدنية وقت الحروب.

إذا عُلم ذلك، علم أن على الجيش السوداني التزامات دستورية، وقانونية، ودولية بموجَب عضوية السودان في المنظمات الدولية الإقليمية، ومصادقته على الاتفاقيات، وحينئذ يجب عليه في الحرب مراعاة ما قد لا تراعيه المليشيا المتمردة، فهو يجب عليه الالتزام بحماية المدنيين، والأعيان المدنية مهما تكن، ومن باب أولى في الحالة السودانية حيث تمثل حماية المدنيين، وممتلكاتهم مصدر شرعية أعمال الجيش، فهؤلاء شعبه، وهذه ممتلكاتهم، فوجوب الالتزام هنا مضاعف؛ فلذلك كان حرص الجيش السوداني على حماية المدنيين هو ما أخر حسم كثير من المعارك الحربية ، لكنه في المقابل عجل بكسب معركة الالتزام الأخلاقي، والقانوني في مقابل مليشيا دمرت البنية التحتية المدنية، واحتلت بيوت المواطنين، واتخذت منهم دروعا بشرية ونهبت ممتلكاتهم، فضلا عن القصف العشوائي للمستشفيات، وأماكن السكن المكتظة بالسكان، ولعله بعد أن تضع الحرب أوزارها سترفع دعاوى بارتكاب جرائم إبادة، وجرائم ضد الإنسانية يأخذ بعضها برقاب بعض، وستأخذ بتلابيب المليشيا، والداعمين لها؛ أفرادا، وجماعات، ومنظمات، ودول، ولعله قد كان الجيش قد وضع خطته منذ البداية للخروج منها منتصرا، وهو الآن في فسحة من أمره بهذا الانضباط، وبالمقابل، فإن الجيش، وهو يلتزم بهذا الانضباط يحقق إشباعا دينيا، وأخلاقيا لجنوده، علاوة على تفويت الفرصة على المتآمرين الذين يتربصون به الهزيمتين، كلتيهما، أو إحداهما، ولقد تجاوز الأولى، وما وقع في فخ الأخرى، فمن المعلوم أن المنظمات الحقوقية تراقب عن كثب، وهي ليست إلا واجهات سياسية لدول تبتغي حصد ثمار هذه الحرب، وكلما وجدت بابا مفتوحا ولجت منه، فالالتزام يغلق باب العقوبات التي يمكن أن تفرض على الجيش السوداني من القوى المؤثرة في السياسة الدولية، فتعوق تسليحه، وإعادة بنائه بعد الحرب، بل ويغلق الباب أمام أي تدخل متوقع، أو يضيق عليه مَوالجَه.

كان أساس الخلاف الظاهر بين الجيش، المليشيا المتمردة هو عملية دمجها في القوات المسلحة، وصولا لتوحيد الجيوش في السودان، ولقد كان هذا الشعار مرفوعا، وقد ضمن الوثيقة الدستورية الحاكمة، واتفاقية جوبا للسلام، وحتى الاتفاق الإطاري الذي وقعت عليه المليشيا، ودُعي الجيش للتوقيع عليه، ولم يبدِ الجيش أي ممانعة في ذلك من حيث المبدأ، غير أن الميليشيا اشترطت أن يكون الإدماج في عشر سنوات، وأن تتبع قواتها لرئيس الوزراء، وألا يكون للقائد العام للجيش أي ولاية عليها، مما أبان النوايا الحقيقية للمليشيا، وحلفائها؛ إذ كيف يمكن أن تبقى هذه القوات لمدة دورتين حكوميتين، ونصف الدورة خارج ولاية الجيش، مما يعني بناء جيش مواز بكل صنوف الأسلحة التي ما كان يمكن أن تحصل عليها المليشيا بحسبانها لا يسمح بامتلاكها إلا للجيوش النظامية.

مع هذا الواقع، وبعد اندلاع الحرب غير الجيش استراتيجيته في التعامل مع المليشيا، فبعد أن كان الهدف هو دمجها في الجيش، أصبح الهدف هو سحقها تماما، وهذا ما عمل عليه الجيش، ووضع له الخطط التي أصبحت توتي أكلها كل حين، فتآكلت تلك القوة الضاربة للمليشيا، وأصبح الموت في صفوفها بالمآت يوميا أمرا عاديا، حتى لم يبقَ من تلك القوات التي كانت تقدر بمائة، وأربعين ألفا مدججة بأحدث أنواع الأسلحة لم يبقَ منها إلا بضعة آلاف، وما تزال آلة القتل تعمل فيهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى