رأي

الديمقراطية وحتمية الفيدرالية الإدارية

دكتور حسن عيسى الطالب

من أكبر الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها الإدارة السلطوية في حق البلاد هو قرار نظام المشير جعفر نميري (1969 -1985م) إبان المرحلة الشيوعية وتسلط نظام الإتحاد الإشتراكي السوداني – التنظيم الأوحد – بحل الإدارة الأهلية، في أوائل السبعينيات؛ وإثر الحرب على طائفة الأنصار وحزب الأمة بزعامة الإمام الهادي المهدي في الجزيرة أبا عام 1971م؛ فدفع السودان من جراء تلك الخطوة غير المحسوبة وغير المدروسة، ضريية ذلك في دارفور، بانتفاض أهلها على الحكم المركزي والتهميش المتطاول، وانفلات الأمن الاجتماعي والوئام القبلي، الذي كانت تمسك بخيوطه في السابق الإدارة الأهلية، من تلقاء مادبو مع الرزيقات وبابو نمر مع المسيرية ودبكة مع الهبانية، وهلم جرا.

إن ما نشهده اليوم هو تراكم تاريخي لمثالب إدارية متتالية على مستوى الدولة؛ فالإدارة الأهلية تدار بالشراكة الاجتماعية والسياسة العامة والتفاهم القاعدي؛ ويرجع تهميشها وضعفها في بلادنا من جراء الفساد السلوكي والأخلاقي والإداري، وتفشي المحسوبية، ولعدم أهلية الحكم المركزي أصلاً كنظام حكم لبلد متعدد الأعراف والقبائل والثقافات، والجنوح السياسي لشراء الذمم بدلا من السعي للشورى والتراضي الجمعي عبر الانتخابات.

فقد تطورت دول مثل بريطانيا بالإدارة الأهلية، وبشراكتها التشريعية والاجتماعية والسيادية، التي يمثلها مجلس اللوردات House of Lords عندهم؛ والذي يتعاقب على عضويته التوارثية مَن كانوا يمثلون القيادات الأهلية التاريخية هناك؛ ومنها حفاظهم على النظام الملكي وأن يكون الملك هو رأس الدولة، ورمز سيادتها، يملك ولا يحكم، ولكنه يضفي المشروعية على الحكومة المنتخبة من الشعب؛ وينظر لكل الشعب، وينظرون إليه، كأبنائه بإختلاف أحزابهم وآرائهم وتوجهاتهم.

في السودان لا بد لنا من العمل الجاد والمسؤول لتوسيع الفيدرالية الحالية، التي ظلت قائمة منذ 1994م ويرجع الفضل فيها لنظام الإنقاذ بابتدارها وتطويرها بعد أيام النميري في أواخر السبعينيات الذي ابتدر فيه الحكم الإقليمي من حكم المديريات؛ فالفيدرالية تتيح لكل فرد من الشعب الشراكة الفاعلة، وتتيح لكل المواطنين إمكانية الشراكة في السلطة عبر الانتخابات، وعلى كافة المستويات الجهوية والأهلية والاجتماعية والثقافية، وهي أفضل وسيلة متاحة لإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والقبلي. وهذه هي الوسيلة الوحيدة والمعروفة والممكنة إدارياُ لإسهام المكونات الاجتماعية في التنمية المستدامة، سياسياً واجتماعياً وتنموياً.

الحلول الفوقية، والاستعلاء الفكري، وفرض الآراء والأيدلوجيا، سيسهم مجددا في التشظي والتفكك، وقد جربه السودانيون؛ ونعيش تداعياته البئيسة منذ أبريل 2019م عبر مقولات: ” نفككو صامولة صامولة” لأن فرض الرأي يعني ببساطة قمع الرأي الآخر؛ وهذا مما يفضي للاحتراب والاقتتال. فالشرائع السماوية التي يأتي مَن يحملونها بأوامر إلهية لا تقبل في نظرهم الجدل أمروا بأن يخاطبوا من يرسلون إليهم بحرية الاختيار: “وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي ارسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا” الآية 87 – الأعراف – فللسودان تجارب إدارية كافية، وعلى مدى سبعين عاما ومنذ تمرد 1955؛ والفصل الحالي من مسلسل الاحتراب، هو استمرار لمخطط تقسيم السودان وتمرير الأجندة الخارجية عليه، وهو المسلسل التقسيمي الذي بدأ بانفصال الجنوب بعد اتفاقيات نيفاشا المفروضة عام 2005م والتي كانت نهاية لحرب استمرت خمسين عاماً، وكان يمكن أن تستمر لخمسين أخرى.

والآن تدار مرحلة تقسيم السودان في فصلها الثاني في دارفور؛ وهناك ما يتبقى في الشرق وجنوب كردفان والشمال. عليه فإن الأسلوب الأنجع والأفضل والأمكن تطبيقا، هو نهج الشراكة السياسية، وتطبيق الفيدرالية الديمقراطية؛ ويعني ذلك أن تكون القوات المسلحة والخارجية والدفاع والعملة الوطنية والمطارات فيدرالية الإدارة؛ وما عدا ذلك يحول للولايات؛ وتتشكل لجنة فيدرالية للانتخابات والاستفتاء، ويتم تقسيم الولايات بصيغة فيدرالية بالتراضي الاجتماعي، مع توفر برلمان فيدرالي ينتخب من كل الولايات؛ ومجلس لشؤون الولايات؛ ومحكمة دستورية يمثل فيها القضاة بالخبرة والأهلية والتمثيل الجغرافي؛ ويكون لكل ولاية برلمانها التشريعي ومحكمتها الولائية وحكومتها المنتخبة من أبنائها.

هذه هي الخبرة المكتسبة، والتجربة المستفادة من العالم المعاصر الذي نعايشه، من لدن سويسرا وأمريكا والهند وماليزيا ونيجيريا. لا يمكن للسودانيين أن يظلوا أسرى لنظام حكم كتشنر الاستعماري، الذي فرض المركزية الإدارية إبان حكم اللورد كرومر بعد 1899م وبعد مرحلة الغزو التركي عام 1820م الذي تماهى معه في الغزو، و التي كانت تجربته هي الفترة الأولى التي يشهد فيها السودان الحكم المركزي، عبر الحاكم العام الواحد، الذي تدار كل البلاد بإشارة منه؛ ودون مشورة ولا رضى؛ فأفضت التجربة الموروثة دون تعقل ولا تريث ولا تعديل ممن تعاقب من النخب على الحكم بعد الاستقلال؛ فأورث ذلكم التجاهل البلاد وأجيالها الخالفة والمعاصرة، التخلف السياسي والإداري والتنموي والأمني الذي نعيشه اليوم.

لا بد من التغيير للأفضل وباستصحاب القيم والموروثات وعبر المشورة الشعبية وبالعمل الجمعي الذي يشارك فيه الجميع. هذا هو المطلب الوطني؛ وهذا وقته وهذا متطلبه وأوانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى