رأي

الإجراءات المطلوبة لحماية العملة الوطنية

دكتور حسن عيسى الطالب

الحرب المفروضة والمدعومة خارجيا على السودان لها عدة محاور: إعلامية ونقدية واقتصادية ونفسية، لإضعاف الثقة في نفوس السودانيين وفي بلادهم وحكومتهم، وكسب الحرب المعنوية والأخلاقية التي خسرتها الميليشيا وأزعجت داعميها سياسياُ وقانونياً وميدانياً.

إذاً فالمطلوب، اليوم وقبل الغد، أن توقف وزارة المالية وبنك السودان، وبقرار فوري وفوقي، كافة التعاملات بالدولار من تمويل صادراتها أو استلامه في واردتها، واستبدال ذلك بالتبادل السلعي حسب الإمكان، وقصر التبادل التجاري بالعملات الوطنية للدول الشريكة.

فمثلا يمكن التعامل مع كل دول الخليج بعملاتها المحلية؛ ولا يحتاج التعامل معها بالدولار أصلاً. وكذلك التعامل التجاري مع الصين باليوان، وقد صدر قرار من مجموعة بريكس BRICS التي تضمها مع البرازيل وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا بإعتماد اليوان كعملة تعامل دولية، وكان صندوق النقد الدولي كذلك قد اعتمده ضمن الاحتياطي النقدي العالمي. كذلك يتعين التعامل التجاري مع روسيا سلعيا وبالروبل؛ ومع الهند بالروبية.
فمسألة سيطرة الدولار المسلطة على الاقتصاد السوداني اليوم هي مجرد قرار تنفيذي فرضناه على أنفسنا بدون تدبر ولا مراجعة ولا أية إحصائيات للربح والخسارة. ومصدر التعجب ينشأ من حقيقة أن السودن لا يستخدم سلعا أمريكية، ولا يستورد منتجات أمريكية، ولا يصدر منتجاته لأمريكا؛ إذاً فلماذا يسيطر الدولار عليه؟

وما هي الحكمة في استبداد الدولار على اقتصادنا؟ للأسف هذا هو نتاج وحصاد العقلية البيروقراطية التي تدير الاقتصاد السوداني بصورة فوقية وتسلط علوي منذ الاستقلال؛ والتي صيغت عبر العقود في عقلية المتدربين منهم في مدارس الرأسمالية الغربية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وفي الأكاديميات الرأسمالية، المتأثرة بالمدرسة الرأسمالية وبالثقافات والقيّم الغربية، والمتماهية مع السياسات الاقتصادية والتنموية الرأسمالية، والمحتفية بالإرث الاستعماري الموروث من مدرسة البريطاني آدم سميث مؤلف كتاب ثروة الأمم The Wealth of Nations الذي يعتبر إنجيل الرأسمالية الغربية في الاقتصاد.
بيد أن هناك تجارب ناجحة ومخارج واقعية لمن يريد الخروج من المأزق، والتحرر من أغلال العبودية الاقتصادية والنقدية المفروضة. فمثلا في حالة الهند، التي تعتبر الاقتصاد السادس حاليا في العالم، من حيث حجم الناتج الإجمالي المحلي GDP فهناك تجربة التعامل بين الروبية والروبل الروسي؛ وهناك إمكانية للسودان في التعامل مع البرازيل بالريال؛ ومع جنوب أفريقيا بالراند؛ ومع مصر عبر التبادل السلعي. هذه حلول خارج الصندوق نحتاج لها؛ وهذا وقتها؛ وهذا الإجراء يتعين أن ينظر اليه كواجب وطنن، يتعين علينا القيام به لإنقاذ اقتصاد البلاد ومكتسباتها. لكننا للأسف ابتلينا بخزي التقاعس المقيم، والركون للواقع الموروث، دون محاولة تغييره، واكتفينا بلعن الظلام، دون محاولة إيقاد شمعة واحدة، والشموع متوفرة لدينا؛ وكذا الافتقار للمبادرة، وضعف الثقة بالنفس وجلد واستحقار الذات؛ وعدم الاستنصار بالخبراء والعلماء المجربين من مواطنينا المحليين منهم، والمنتشرين في كل بقاع العالم؛ فضلا عن تفضيل المسئولين منا الركون لأي ظلم يقع على وطنهم من الخارج؛ والتقاعس المخزي بدعاوى انتظار والتوجس من ردود أفعال الآخرين في كل خطوة يتطلب الوطن القيام بها؛ فأصبحت بلادنا تدار بالتحكم من البعد Remote Control وليس بإرادة أبنائها، ولا بالرأي الغالب في شعبها؛ وهذا أصبح أمرا ملحوظا ومشهودا، لا يحتاج الى أي دليل، ويعلمه القاصي والداني، سواء في ميدان الحرب في مدني وسنجة، أو في قرارات السلطات الولائية والوزارية تجاه الحقوق والواجبات والأولويات، أو حتى في تشجيع ودعم الاستنفار وحظر السلاح لمن رضي التضحية بدمه منهم. ومن تلقاء ذلك، فقد صارت سابقة من غرائب الأمور، في حالة السودان، أن الجيوش في أي مكان في العالم – والآن بوضوح في اسرائيل – تطالب الشعب بالانخراط في الدفاع عن الوطن، وبقوة القانون والطوارئ، ومعاقبة من يتخلف منهم عن واجب الدفاع عن الوطن ، ورميه بالتخاذل والخيانة؛ ولكن في حالتنا يحظر على المستنفرين حمل السلاح من قبل بعض الجهات المسماة الرسمية.
بيد أنه ولكسب الحرب الاقتصادية الحالية، فالمطلوب حالياً وبصورة فورية، وبلا تقاعس، وقف أي استيراد بالدولار، والتعامل مع الدول التي ترتضي أن تتعامل معنا بعملاتها المحلية؛ وهذه عملية اقتصادية معروفة في ادارة الاقتصاد النقدي Swapping وتتم عبر غرف المقاصة في بنك السودان والبنوك المركزية النظيرة بتلك الدول.
الخطوة التالية المطلوبة لتحقيق الانتصار في الحرب النقدية والاقتصادية، هي التحول للعملة الرقمية، ووقف الطباعة الورقية، وتوفير تكاليفها العالية، وحصرها في أضيق الحدود الممكنة خلال مرحلة الانتقال؛ والتحول لبطاقات الائتمان والصراف الآلي، وفتح حساب الكتروني لكل موظف بالدولة وفي الولايات ليتم التصرف عبره لا غير. فهذا الإجراء يمنع التزوير، ويمكن من احتساب الكتلة النقدية، ويهيئ البلاد للانتقال لمرحلة الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي واللحاق بركب التقانة على المستوى العالمي.
فضلا عن ذلك، فإن منافذ البيع التجارية وكل الشركات، ومقدمي الخدمات في كافة أنحاء البلاد، مطلوب منهم وبالقانون، توفير واستخدام أنظمة البطاقة الالكترونية في الدفع؛ ويطلب من الدولة فرض إجراء كافة معاملتها بالعملة الرقمية؛ ويمكن أن تعلن الدولة عن حافز بتخفيض ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة لمن يستعمل البطاقة الالكترونية. فمثلا يمكن أن تخفض القيمة المضافة لمن يستخدم البطاقة الالكترونية الى 10% ولمن يستخدم النقد 15%؛ هذه خطوة ضرورية وتحفيزية مطلوبة اليوم، قبل الغد، لأنها تمثل العزم وصدق الإرادة للانتقال الحقيقي للرقمية، وتضمن موثوقية المعلومات وتوثيقها لدافع الضرائب، والتعرف على الوضع المالي الحقيقي لكل منشأة ومؤسسة اقتصادية، واستكمال وتصحيح الاحصائيات الرسمية، والكف عن تقدير الضرائب عبر إجراءات عشوائية.
هذه اجراءات يتعين أن تلجأ لها الدولة، وتفرضها في هذه الظروف اضطرارا، مثلما فرضت عليها الحرب، فقابلتها بإجراءات وتدابير اضطرارية. فهذه هي المتاريس الدفاعية والخنادق المالية والنقدية، التي تلجأ لها الدول المسئولة والراشدة لحماية اقتصادها عندما يتعرض للهجوم. علينا اليوم التفكير الجاد من خارج الصندوق الذي حبسنا فيها كقمقم سليمان عليه السلام على مردة الجن المتمردين. آن لهذا القيد أن ينكسر وآن لنا أن نتحرر من أغلال الاستعمار البالية، وثقافته واقتصاده وادارته التقسيمية ومركزيته، التي أورثتنا الضعف والذل والفشل والهوان. ولنا الثقة في رشد ووطنية ومسئولية الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية والاقتصاد الوطني، وخريج اقتصاد جامعة الخرطوم، والذي يحمل درجة الدكتور ة في التخصص من أعرق الجامعات العالمية؛ كما سبق له العمل المهني والتدريب الإداري في كبريات الشركات في السودان وخارجه، وثقتنا أنه لن يفوت عليه القيام بما يمليه شرف التكليف لإجراء هذا التطبيق، لإنقاذ اقتصاد السودان، وللمصلحة العليا للوطن والمواطن، فهذه فرقته التي يجهد فيها، فلا يؤتى السودان من قبله.
ونثق أنه لن يتقاعس عن أداء هذا الواجب الطارئ، اليوم قبل الغد، لإنقاذ الجنيه السوداني، واقتصاد السودان، وتحرير مواطن السودان من الفقر والمسغبة، والتدابير المفروضة لتهميشه واقصائه. هذا الطريق لكسب الحرب الاقتصادية والنقدية المفروضة، ولوقف التعدي على العملة الوطنية وتدميرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى