رأي

لماذا يلام الطيب صالح … في حب المتنبي؟

عبد القادر دقاش

في أول يوم من كل عيد أضحى أمر بدار الشريف الفنجري (رحمه الله)..أجده جالساً كعادته على عنقريبه الهبابي، مكتحل العينين وعليه حلة وكأنه أمير..وقبل أن ينزلق لساني بتحايا العيد، وتمني الأمنيات..أقف غير بعيد، وأقول: عيد بأية حال عدت يا عيد.. فيطرف بعينيه مبتسماً، ويطرق قليلاً، ثم يرفع رأسه، ويأخذ نفساً عميقاً، كأنه يسمح لشلال الذكريات أن ينفجر من تلافيف روحه ويجري على لسانه.. ليصدح: بما مضى أم لأمر فيك تجديد…وتتدفق القصيدة كاملة من بين شفتيه بصوت عذب شجي خال من اللحن، وكأنه رؤبة بن العجاج تحيط به جمهرة النحاة.. أو ابن رشيق ومعه متحزبي المتنبي..فالفنجري من عشاق المتنبي، ولا يدانيه عشقاً إلا أعمى المعرة الذي يرى أن شعر المتنبي: تعجز الشعراء الإتيان بمثله. ويغالي ليقول: إنما قصدني المتنبي بقوله: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي..!

ثم يجول بذاكرته في ديوان المتنبي الذي يحفظه كاملاً من دون أن تفارق الابتسامة وجهه الوضيء، يتمثل شعر المتنبي في كل حركة وسكنة..

 

وهكذا يفعل كل عشاق المتنبي. أبناء أب روف من ارتاد منهم مجلس الطيب السراج ومن خالطه، ومن لم يخالطه..يحفظ قصيدة واحدة أو اثنتين للمتنبي. علي السراج، بطاقيته الخضراء، وسبحته اللالوب، يدخل مجلس الشيخ الباقر الهميم متمثلا شعر المتنبي، والشيخ الباقر لا يقل عطاء عن سيف الدولة. حتى الترابي الذي بينه وبين الشعر جدار سميك، لم يجد في مفاصلته الشهيرة مع تلاميذه، غير المتنبي ملاذاً، فتمثل قوله: أنا في أمة تداركها غريب الله كصالح في ثمود؟!

 

لا ينفض سامري مع الشريف من غير أن أطرق على أشد الأوتار حساسية في ذاكرته، أو أعترض شلال أفكاره المتدافع، قائلا: وماذا قالت المعلمة: يضحك، ويروي لي القصة، من منشئها الأول: تلك أيام قد مضت، كنت فيها في مطلع شبابي غني بالمال، وغني بالشعر، أجوب البلاد، شرقاً وغرباً شمالاً، وجنوباً.. وأنحني ناحية أم درمان، وبارا و أم بادر، أشتري الصمغ والسمسم، والشعر والصحبة الجميلة، وفي بارا، بلد الدولايب ودار حامد وخرسي الدويحية، وحلة الركابية..كانت الحكاية (…أنا لا أرضى أن يشاركني أحد في المقعد الأمامي، أنا والسائق والمتنبي.. واللوري، ملكي.. لكن القوم أقنعوني بأن رفيقي في المقعد معلمة من معلمات اللغة العربية، شابة، جميلة وفصيحة ورقيقة ..أظهرت تمنعاً، تعللت و قلت ما دامت محطتها أم سيالة، فأم سيالة ليست ببعيدة.. توسطت المعلمة والسائق رابعنا المتنبي، وانطلق اللوري، يشق طريق أم درمان، وغمرنا عطر السيد علي الميرغني، فالتفت إلى المعلمة قائلا: أمن أعطافك النشر؟..فنظرت إليِّ في بلاهة، وقالت: شنو!… لم أنطق بعدها بكلمة واحدة، ونزلت دون أن أودعها بكلمة..هي لا تعرف العقاد..ومن لا يعرف العقاد لا يعرف المتنبي، ومن لا يعرف المتنبي لا يعرف العربية.. يحاول أن يطرد هذه الخواطر، المعرقلة… ويقول: وتعجبني رجلاك في النعل أنني..رأيتك ذا نعل إذا كنت حافياً. ويضحك عاليا..ويقول: المسكين يظن أن المتنبي يمدحه..المتنبي لم يمدح كافوراً الأخشيدي، وإنما يضمر له الهجاء والسخرية فيما يظن أنه مدح…

 

أقف، لأودعه، وأقول، سأعود إليك نهاية اليوم..هو يعلم أنني لن أعود إلا مثل هذا اليوم من كل عام، لأسامره بضع لحظات، وأقول، عيد بأية حال عدت يا عيد…وأنا لا أحفظ غير هذا البيت من القصيدة التي يهجو فيها المتنبي أعظم سوداني حكم مصر.. لكني لا ألوم الفنجري في عشقه للمتنبي، و لا أجاريه في سخريته من أبي المسك، الأستاذ كافور الأخشيدي..الشجاع المقدام الجواد…لا لوم على الفنجري، فهو يجد في شعر المتنبي سلواه..وهو لا يعرف أبا المسك.

ولا ألوم عبد الله الطيب فهو محب كبير للمتنبي، وبلغ إعجابه به أنه قال “زعم ابن الأثير أن في متن شعر أبي الطيب وهيا، وقد كذب ورب الكعبة” رمى عبد الله الطيب ابن الأثير بالكذب، لأنه متحزباُ متعصباً للمتنبي، وكتب كتاباً صاحب فيه المتنبي، أسماه (مع أبي الطيب) وهو يخالف ما كتبه عنه طه حسين في كتابه (مع المتنبي) الذي يرى أن المتنبي كان شاعراً كغيره من الشعراء، ورجلاً كغيره من الناس، قد رفع نفسه فوق قدرها، وزعم لها ما ليس من أخلاقها وطمع فيما لا ينبغي لمثله أن يطمع فيه. ظن نفسه حراُ ولم يكن إلا عبداً للمال، وظن نفسه أبيا، ولم يكن إلا ذليلا للسلطان.

 

لم يكن طه حسين وحده من قلل من شأن المتنبي، بل هناك من القدماء من فعل ذلك فالصاحب بن عباد من الذين قللوا من شعر المتنبي وكتب رسالة سماها: (الكشف عن مساوئ المتنبي) حط فيها من مقداره وكذلك فعل ابن العميد ووصف ابن العميد شعر المتنبي بالركاكة والتعقيد وقبح الألفاظ.

 

لكن اللوم كل اللوم على الطيب صالح، كيف يحب هذا الصوفي المرهف الحس، والإنسان الذي قد من طين المحبة، أن يحب المتنبي، المتضحمة أناه حد التضليل، والطماع الأناني حد الجنون، كيف والطيب صالح يقول.. (الإنسان يا محميد …الحياة يا محميد ما فيها غير حاجتين اثنين..الصداقة والمحبة. ما تقول لي لا حسب ولا نسب، لا جاه ولا مال …ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة في إنسان واحد يكون كسبان).

لا شك أن الطيب صالح قرأ المتنبي عشرات المرات، ومر على: جوعان يأكل من زادي ويمسكني..لكي يقال عظيم القدر مقصود. وهو مدرك أن أبا المسك، أكرم المتنبي غاية الكرم وأسكنه وأواه وأغناه.. لكن المتنبي منكر جاحد لئيم.. والابتسامة لا تفارق وجه الفنجري وهو يقرأ: صار الخصي إمام الآبقين بها..فالحر مستعبد والعبد معبود. نامت نواطير مصر عن ثعالبها..فقد بشمن وما تفنى العناقيد. العبد ليس لحر صالح بأخ.. لو أنه في ثياب الحر مولود. لا تشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد. وقرأ عبد الله الطيب ذلك وحفظه، وهو يفاخر بممالك السودان القديمة، لكنه لم ينفض يديه من المتنبي ويعلي من شأن كافور..الذي أوصله ذكاؤه وحلمه وصبره وحسن سياسته، فقد شهد له آل الأخشيد بذلك وقربوه، واتخذوه هادياً في مملكتهم، ورفعه أهل مصر ولهجت الألسنة بالثناء والدعاء على المنابر في مصر والشام شاهدين بعدله وكرمه..وقد سمع المتنبي بذلك وقصده لذلك..وقال: قواصد كافور توارك غيره ..ومن قصد البحر استقل السواقيا..ويقال أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت تملكه الغضب وقال: له الويل. جعلني ساقية وجعل العبد الأسود بحرا؟!

 

وشراح المتنبي غضبوا لغضب سيف الدولة السيد العربي من نسل تغلب، كيف ينقض المتنبي غزله فيمدح كافورا…المتنبي لا يستحق حب الطيب صالح، وكان على الطيب صالح إن أبت نفسه أن يكون مع الذين قالوا، إن المتنبي لا ينطق إلا بالهوى ولم يتكلم إلا بالكلمة العوراء، ومعانيه كلها مسروقة..وفوق ذلك لم يعدوه من الشعراء وازدروه غاية الازدراء..إن لم يكن مع هؤلاء، كان عليه أن يكف عن القول إن المتنبي يطربه…والمتنبي كل هجاء عنده كتبها بأسنة رماح حبرت بدماء من هجاهم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى