رأي

الجيش السوداني: سبعون عاماً من الصمود (1-2)

عز الدين بيلو

مرت علينا قبل أيام الذكرى السبعون لسودنة قواتنا المسلحة، والتي كانت في يوم 14 أغسطس 1954، بتسنم الفريق أحمد محمد حمد الجعلي موقع أول قائد عام للجيش السوداني، ومن يومها ظلت القوات المسلحة وما زالت تقدم كل غال ونفيس وتبذل العرق والدم لتحافظ على كيان وهوية الدولة السودانية، وظلت تحبط أي مؤامرة تستهدف وحدة وكيان الدولة، وكل ذلك بتكاتف وتلاحم تام من الشعب السوداني مع قواته المسلحة محققين الشعار الرائع (جيش واحد.. شعب واحد).

وظل الجيش السوداني من يوم سودنته وحتى تاريخ اليوم هو الجيش الوحيد في دول المنطقة الذي استعصى على التركيع من دول الاستكبار العالمي التي عملت عبر عملائها على تغذية التمرد في المنطقة وكسر جيوشها وتسليم السلطة لمن يوالونها.

*الأطماع الاستعمارية في البلدان الأفريقية*
تعد أفريقيا مصدراً لنحو 30% من احتياطيات العالم من المعادن، إذ لديها 40% من الذهب العالمي ونحو 90% من الكروم والبلاتين. كما يوجد بها أكبر الاحتياطيات من الماس واليورانيوم، وتمتلك 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم.
لذلك تعرضت دول هذه القارة للاستعمار الأوروبي لاستغلال هذه الثروات في القرن التاسع عشر، ولم تستقل هذه الدول إلا في منتصفيات القرن العشرين، بعد نشاط حركات التحرر في أفريقيا، لكن للأسف خرج الاستعمار من البلاد بشكله المعروف لكنه ترك زعامات ورئاسات من صنعه ليستنزف ما تبقى من خيراتها لصالحه. ومن تمرد من الزعماء الأفارقة على هذا الوضع، فهو إما قتل أو تعرض لانقلاب عسكري يطيح بحكمه، أو تعرض لإثارة احتجاجات شعبية سلمية أو مسلحة تدخل بلده في دوامة من العنف والفوضى.. وقامت هذه الدول بدعم غالبية حركات التمرد ما بعد الاستقلال.

وفي استعراض سريع نرى كيف استطاعت كل الحركات المتمردة في المنطقة والتي في أغلبها كانت مدعومة من قبل القوى الخارجية، من استلام السلطة في بلدانها، وبقي الجيش السوداني الوحيد الذي استعصت هزيمته وكسره من قبل حركات التمرد ليتسنى لها استلام السلطة في البلاد، بل حتى الانتفاضات الشعبية ما نجحت في الإطاحة بالأنظمة الحاكمة فيه إلا بعد انحياز قوات الشعب المسلحة إليها كما سنرى.

*التمرد في أفريقيا واستلام السلطة*
في جمهورية الكونغو الديمقراطية قاد لوران كابيلا تمرداً مسلحاً أسقط به نظام موبوتو وذلك في العام 1997م ودخل بقواته إلى العاصمة واستلم السلطة.. قبل أن يغتال لاحقاً.
أما في يوغندا فقد قاد يوري موسيفيني مجموعات مسلحة ضد حكم الرئيس باسيليو اوكيلو سيطر بها على العاصمة كمبالا وأصبح رئيساً للبلاد من العام 1986 ولا يزال.
وفي تشاد قاد إدريس ديبي تمرداُ مسلحاً ضد حكومة حسين حبري استطاع به استلام السلطة بعد الدخول على أنجامينا سنة 1990.. وأصبح رئيساً للبلاد حتى مقتله في 20 أبريل 2021،
وفي إثيوبيا استطاع زيناوي عبر ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية التي ضمت ست مجموعات عرقية مسلحة إلى جانب التيغراي من دخول العاصمة أديس أبابا، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسته بعد فرار منقستو في مايو 1991 من إثيوبيا متوجها إلى زيمبابوي،
أما في جمهورية أفريقيا الوسطى فقد قاتل المتمردون حكومة الرئيس فرانسوا بوزيزيه حتى استطاعوا الاستيلاء على العاصمة في العام 2013 بعد فرار بوزيزيه من البلاد، ويومها أعلن زعيم المتمردين ميشيل جوتوديا نفسه رئيسًا للبلاد.

*السودان وحركات التمرد*
الملاحظ أن كل حركات التمرد المذكورة أعلاه لم تستمر في قتال الجيوش الوطنية في بلادها سوى أعوام تعد على أصابع اليدين حتى استطاعت كسرها واستلام السلطة، ليكون المتمردون هم الجيش الوطني البديل، أما في السودان، وبالرغم من أنه شهد أقدم تمرد على السلطة والجيش الوطني في القارة وذلك في يوم 18 أغسطس 1955، قبل أشهر من استقلال السودان، حينما تمرّدت الوحدة العسكرية المكونة من الجنوبيين في توريت بالاستوائية، والتي أعقبها تأسيس قوات الأنيانيا مطلع الستينيات و خاضت حرباً شرشة ضد القوات المسلحة، حتى تم توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972، للسلام، والتي توقفت الحرب بموجبها لمدة 10 سنوات، وتم استيعاب هذه القوات لتكون جزءاً من الجيش السوداني، ولكن يبدو أن البعض لا يريد أن يرى سوداناً مستقراً، فهم يرون أن السيطرة عليه لا تكون إلا بإضعافه وإشغاله بأوضاعه الداخلية.
لذلك سرعان ما ظهر التمرد الأقوى بقيادة جون قرنق، والذي كان عقيداً في الجيش، ولكنه تمرد عليه وقاد عبر الجيش و الحركة الشعبية لتحرير السودان، حرباً شرسة ضد الجيش منذ عام 1983، والتي استمرت حتى توقيع اتفاقية نيفاشا في العام 2005، وتم استيعاب قادة التمرد في الحكومة المركزية، ونال جون قرنق منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وكل ذلك باتفاقية سلام وليس عبر إسقاط الجيش أو هروب الرئيس كما رأينا في كثير من الأمثلة السابقة.

وخلال الهدنة في حرب الجنوب ظهر تمرد دارفور في العام 2003، عبر حركتي تحرير السودان، والعدل والمساواة، وأيضاً خاض الجيش حرباً ضروسا مع هاتين الحركتين قبل أن تتشظيا إلى عشرات الحركات المقاتلة للجيش، والمدعومة كلها من الخارج، ولم يستطع أي من هذه الحركات الوصول إلى السلطة في الخرطوم إلا عبر اتفاقيات سلام.

وحتى عندما استطاعت قوات العدل والمساواة بقيادة د. خليل إبراهيم من اجتياح أم درمان فيما عرف بعملية “الذراع الطويل” في العاشر من مايو عام 2008 استطاعت القوات المسلحة من كسر القوة المهاجمة ودحرها وقتل بعض قادتها وأسر آخرين وتدمير آليات وسيارات المهاجمين أقامت بها معرضاً للزوار.

ولم يكن ذلك الاجتياح للعاصمة هو الأول الذي تواجهه قواتنا المسلحة بعد سودنتها فقد سبقته حركة الثاني من يوليو 1976 أو ما عرفت بعد ذلك في وسائل الإعلام المحلية بحركة المرتزقة وهم (مقاتلو الجبهة الوطنية) والتي تضم (حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديموقراطي، والإخوان المسلمون) والذين تلقوا تدريبا عسكرياً في ليبيا للإطاحة بحكم الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، ورغم أنهم استطاعوا اقتحام دار الهاتف والمطار والاتصالات، واستولوا على عدة مواقع في وادي سيدنا والمدرعات بل واستولوا على موقع الإذاعة والتلفزيون وسلاح المهندسين والدفاع الجوي والسلاح الطبي حتى وصلوا إلى القيادة العامة، لكنهم ظلوا طيلة فترة السيطرة على الخرطوم (3 أيام) بلا إعلام، بعد أن تعطلت الإذاعة ولم يستطيعوا تشغيلها، وهذا مما مكن من ظهور القائد العام للقوات المسلحة (نميري) مخاطباً الشعب وقواته المسلحة بأن البلاد تعرضت لغزو أجنبي من مرتزقة قادمين من ليبيا ويدعو جنود وضباط قوات الشعب المسلحة للتصدي لهم.. فتم دحر الغزو والقبض على كثير من المقاتلين.. ثم بعد عام واحد وبمصالحة وطنية وصل بعضهم إلى سدة الحكم في البلاد.

*الجيش السوداني والمشاركة السياسية*
لعل الجيش السوداني يظل أكثر جيش في العالم مشاركا في العملية السياسية، وذلك برئاسته للبلاد، عبر الانقلابات العسكرية، وللأسف أغلب هذه الانقلابات كانت بدعم وتحريض من قوى سياسية فاعلة، ففي المرة الأولى في انقلاب 17 نوفمبر 1958م، أي بعد عامين فقط من استقلال البلاد قاد الفريق إبراهيم عبود انقلاباً كان عبارة عن “عملية تسليم وتسلم” قام بها رئيس الوزراء ووزير الدفاع عن حزب الأمة عبد الله خليل، الذي طلب من عبود تسلم الحكم للخلافات الطاحنة بين شركاء الحكم يومئذ، واستمر في الحكم ست سنوات حتى تمت الإطاحة به عبر ثورة أكتوبر 1964، فقرر الفريق إبراهيم عبود التنحي عن الحكم وحل المجلس العسكري وتسليم السلطة لحكومة ائتلاف مدني.
ثم في 25 مايو 1969م، قام انقلاب مايو بقيادة العقيد جعفر محمد نميرى بدعم من الحزب الشيوعي، قبل أن يحاول الإطاحة به في محاولة انقلابية فاشلة في 19 يوليو 1971م، ليستمر النميري 16 سنة حاكماً قبل أن تطيح به انتفاضة أبريل 1985 بعد انحياز الجيش لها بقيادة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، والذي استلم السلطة لعام واحد في فترة انتقالية بصفته وزير الدفاع وسلم السلطة في العام 1986 لحكومة الصادق المهدي المنتخبة.

وفي 30 يونيو 1989م، قاد العميد عمر حسن أحمد البشير انقلاباً على حكومة الصادق المهدي بالتعاون مع الجبهة الإسلامية بقيادة د. حسن الترابي، واستمر في الحكم لثلاثين عاما، قبل أن تطيح به ثورة شعبية في 11 أبريل 2019م، بعد أن انحاز الجيش لجانب الشعب بقيادة الفريق أول عوض بن عوف النائب الأول و وزير الدفاع، والذي ترأس المجلس العسكري ليوم واحد فقط من 11 أبريل 2019 إلى 12 أبريل 2019م، وتنحى عن السلطة بعد استمرار الرفض له من المتظاهرين ليخلفه الفريق – وقتها – عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان ويتولى رئاسة المجلس العسكري الانتقالي في أبريل 2019، ثم يترأس مجلس السيادة السوداني منذ أغسطس 2019 وحتى تاريخه.

نواصل…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى