رأي

عمر الطيب الدوش: شاعر اليوتوبيا الحالمة والخلاص الزائف

دكتور وائل الكردي

كان يبحث عن مدينة فاضلة غائبة في الماضي وفي عصره، لأنها كانت على طريقته هو وحده دون سواه. ولذلك كان هو يعلم أنها لم ولن تكون، فقرر الموت ببطئ.

فها هو يخاطب فردوسه المفقود في نفسه كما خاطبه من قبل (ملتون) منذ الخليقة الأولى في عالم منزوع الرحمة:

بتطلعي أنت من غابات 

ومن وديان ومني أنا

ومن صحية جروف النيل

مع الموجة الصباحية

ومن شهقة زهور عطشانة

فوق أحزانا متكية

بتطلعي أنت من صوت طفلة 

وسط اللمة منسية

فلم يخاطب (الدوش) وطناً في هذا الكلام، وإنما خاطب إنساناً قد اغترب عن نفسه في وطنه وهو يرى كل ما قد ولد معه من حجر وشجر وجروف أنهار ووديان هي (وسط اللمة منسية)، فاتكأ هو على حزنه في وسط خلق من الناس اتكأت حتى الزهور بينهم من قبله على أحزانها.

لقد كان (الدوش) يخاطب الناس بغضب وحنق شديد، فلا صبر لديه على غباء البشر اللاهين بأفراحهم وهم يعلمون أنه فرح زائف مسكر كما الخمر، ولكن الخمر إن كانت تخفي الحقائق في العالم عن العقل، فإنها تفضح ما وقر في النفس من ألم وأحزان، وليست الخمر هي المسكر ولكن المسكر هو العذاب الوجودي عندما يطفح إلى الحلق ويغرغر به الإنسان. وهنا نجد قول الله تعالى (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد).

وفي تلك الساعة، تتحقق الطمأنينة الكاملة عندما يفرش الإنسان على نفسه شادر العزاء وقد رحل حياً على طريقة الصوفية في حال المحو ومقام الفناء يبلغ به المريد السالك منزلة النيرفانا الهندية أو الأتركسيا الاغريقية التي في وصفها يترقى الإنسان نحو الطمأنينة السلبية والخلو من الألم فلا انفعال ولا تفاعل وإنما سكون مطلق واكتفاء كلي بالذات عن ذوات الناس إن كانوا أعداءً أو كانوا أصدقاء، وأن طريق العذاب هو الموصل إلى هذه المنزلة ليرتاح بعدها الإنسان من رحلة شقائه عبر الحياة. ولكن أقصى درجات الألم الإنساني تقع له عندما يجد الإنسان نفسه تراوده إلى قطع هذا الوصل السامي والعودة اضطراراً إلى حيث كان ينفعل ويتفاعل ليعود الحزن معه بغير إرادة منه في منع ذلك، فهو قد قطع الوصل قبل أن يصل. فهكذا تكلم (الدوش):

بفرش على روحي وبجيك 

زولاً هلك تعلان وطاش

لامن أشوفك ببقى زول 

فرشولو فرش الموت وعاش

(ففرش الموت) هو ذاك الخلاص بالنيرفانا/ الاتراكسيا والإنسان على قيد الحياة يعيش، وأن (الهلاك) هو اضطرار العودة عن هذا الخلاص في اللحظات الأخيرة قبل بلوغه لأنه قد فتح عينيه على ما يثير شجونه دوما، بعدما كان قد أغمضها. و(عاش) هي عين السقوط في العذاب المسكر للبشر بغير خمر مسكرة.

ويبدو أن ما أسقط (الدوش) عن هذه اليوتوبيا الذاتية قبل تحققها وعن حال الخلاص قبل بلوغه، هو تلك الرغبات الدنيا وإرادة الحياة التي أخذت بيده وانزلته عن علياه، وكان جوهر مأساته في هذا أنه لم يستطع منها فكاكاً أبداً:

وتمشي معايا وتروحي

وتمشي معايا وسط روحي

ولا البلقاه بعرفني

ولا بعرفك معاك روحي

هكذا ربما كان (الدوش) ينظر لنفسه بأنه (روح) و(جسد) و(أنا). وفي الصعود نحو الخلاص تبقى الروح ويبقى الجسد وتتلاشى الأنا.. ولكنها ترجع بعد الخلاص مرة أخرى وتمشي معه وسط روحه ولتعيد الآلام من جديد. لقد كان (الدوش) يصور نفسه على هذا الفصام الشخصي، وكأنه يقول  لكل الناس بشعره؛ أنكم جميعاً ذلك الإنسان بروح وجسد وأنا ولكنكم تلقون معاذيركم كي لا تواجهون مآسيكم، ولأنكم أصلاً لا تريدون الخلاص.

وعندما يفرح (الدوش) العائد من الخلاص قبل بلوغه مرة، فهنا يصير الصراع مراً بين ظن بخير في تلك الأنا السارحة بين روحه وجسده وعقله الذي يدعوه إلى الخلاص، وبين حقيقة الزيف في الدنيا عندما يقبل الناس على الأفراح، ويقبل هو معهم، وهو يعلم -على ما يبدو في أشعاره- أن كلمة (الفرح) تماماً مثل كلمة (العدم)، فحيث أن العدم كلمة لا دلالة لها مشار إليها بكائن ما وأنها بهذا محض مردود لغوي سالب على كلمة (وجود)، فكذلك كلمة (الفرح) ما هي إلا مردود لغوي سالب على كلمة (الحزن) ولا وجود لدلالة لها على الحقيقة. فيكون (الدوش) قريباً جداً من النسق التشاؤمي في رؤية العالم كما لدى الفيلسوف (شوبنهور) الذي قرر أن مأساة العالم هي إرادة الإنسان. فينطبق في الأخير على هؤلاء الفرحين قول الله تعالى (ولا يخدعون إلا أنفسهم) ألم يأتنا الخبر عن رب العالمين (إن الله لا يحب الفرحين) وأمره (ولا تمش في الأرض مرحاً), ليأتي (الدوش) من بعد ذلك ليقول:

دقت الدلوكة

قلنا الدنيا مازالت بخير

أهو ناس تعرس وتنبسط

دككت سروالي الطويل

سويتلو رقعات في الوسط

في خشمي ختيت القميص

أجري وأزبد شوق وانط 

لامن وصلت الحفلة

فجيت الخلوق

ركزت شان البت سعاد

ولماذا البنت أسمها (سعاد)؟ لأجل أن تتكامل منظومة الرمز الشعري في معاناة (الدوش). فالفرح الزائف (سعاد) هو كما (السروال الطويل) الممزق بالقدود في أوسطه وعليها رقع تخفيها، ولكن القدود باقية تحتها. وهذا مما دفعه إلى خلع الوقار فيضع القميص في الفم ويسلك الكهل سلوك الأطفال بالنط حين يفرحون، ولكن فرح الأطفال بريء صادق، أما فرح الكهول فسروال مقدود تغطيه الرقاع.

وليكن ختام القول لوم وعتاب منه إلى كل البشر (فجيت الخلوق)، أنهم جعلوه يظن أن الفرح قد جعل قدمه تكبر عن حد الحذاء وأن هذا الحذاء هو ذاك الحزن الذي فاقه الفرح حجماً وكماً فخرجت عنه نصف قدمه إلى الأرض إيذان بالتحرر الآتي من كل الأحزان. ولكنه في لحظة الحقيقة علم أن الناس قد اقتطعوا له أصلاً نعلاً قصيراً لا يغني القدم عن لمس التراب، وكانت الحقيقة أيضاً أن الحذاء القصير هو الفرح وأن القدم   الكبيرة هي الأحزان والالام. وهكذا نادت (الدوش) أناه بالسوء فيما بين الروح والجسد لكي يفقد يوتوبيا الخلاص التي حلم بها في خضم الفرح الكثيف الزائف، قائلة له:

قالت لي تعال

كبرت كراعي من الفرح

نص في الأرض 

ونص في النعال

وحينما أدرك (الدوش) حقيقة الخديعة أصبح غضوباً ناقماً في وجه كل الخلائق. ثم مات واقفاً، وهو ما كاد  يبلغ يوتوبيا الخلاص في خياله حتى فقدها، إلى الأبد. فهل تراها كانت يوتوبيا (الدوش) هذه صواباً وممكنة التحقق لأي إنسان غيره، أم أنها محض سراب وأوهام عاش فيها (الدوش) حلماً بغير حقيقة أو واقع. ولكنه ترك فنا سيخلده أبناء جلدته طويلاً. رحم الله (عمر الطيب الدوش).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى