نهب الجنجويد كنائسهم واستحلوا دماءهم.. “أقباط السودان” في قلب معركة الكرامة

المحقق – عزمي عبد الرازق
الصورة التي جمعت مدير جهاز المخابرات العامة في السودان ، الفريق أول أحمد إبراهيم مُفضّل، مع الأنبا صرابامون، أسقف شمال السودان، على خلفية تكريم القاص والصحفي السوداني نبيل غالي، حملت العديد من رسائل التقدير الحكومية لطائفة الأقباط، سيما وأن تلك الطائفة اختارت طواعية، مساندة الجيش في معركة الكرامة، والدفاع عن الوطن.
بداية المعناة
بدأت معاناة أقباط السودان مع ميليشيا الدعم السريع في اليوم الأول للحرب، حيث قاموا بالهجوم على كنيسة مارجرجس بمدينة أم درمان وأطلقوا النار على الخدام وكاهن الكنيسة، فيما تم اقتحام منزل الأسقف وانقضوا عليه بالعصى، لسرقة منزله بجانب منازل السيدات المسنات بتلك الكنيسة، مما أسفر عن وقوع إصابات خطيرة.
وتعرض الأنبا صرابامون إلى – معاملة سيئة – من قبل قوات الدعم السريع المتمردة، وذلك بعد أن أخذوا سيارته، وجميع ممتلكاته الشخصية تحت تهديد السلاح.
وفي وقتٍ لاحق اختطفت قوات الدعم السريع المتمردة لواء طبيب متقاعد (مجدي وصفي) من منزله، وهو قبطي، واعتدت عليه بالضرب والشتم، وأجبرته على ارتداء زيه العسكري ووصفته ب (الفلول)، وقامت بتوثيق ذلك الاعتداء بكاميرات الهواتف المحمولة، ونشرته في وسائل التواصل الاجتماعي، وسط حالة من الهياج والأجواء الترهيبية.
من المهم الإشارة إلى أن قوات الدعم السريع المتمردة قامت أيضاً بإحتلال كنيسة الأقباط بحي النسيم في الحاج يوسف، شرقي الخىطوم، واتخذتها موقعاً عسكرياً لهم، ومنعت الطائفة من دخولها لأداء الصلوات.
حصار جانيت
ورصد موقع (المحقق) الإخباري فصول من معاناة أقباط مدينة أم درمان بسبب القصف العشوائي الذي تقوم به مليشيا الدعم السريع، بصورة يومية، وقد طال القصف و التدوين منازل وكنيسة الأقباط في أحياء المدينة القديمة، وفيما اختار بعضهم البقاء غادرت مجموعة آخرى إلى ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر.
تحكي جانيت رامنديوس قصة الحصار الذي ضربته عليهم مليشيا الدعم السريع في حي العمدة بوسط مدينة أم درمان لأكثر من نصف عام، وكيف فقدت بعض أفراد أسرتها بسبب الجوع والمرض، واضطروا لدفنهم داخل حديقة المنزل، قبل أن يستعيد الجيش تلك المنطقة ويقوم – بالتنسيق مع الكنيسة – بنقل الجثامين، لدفنها في مقابر المسيحيين.
وقد شهدت جانيت احتلال مليشيا الدعم السريع لأحياء أم درمان القديمة، وكيف رفضت المغادرة، لأنها لا تريد هجر موطن صباها وذكرياتها، وقد عاشت لحظات عصيبة من الخوف والقلق، تبددت بظهور القوات المسلحة التي وفرت لهم الحماية، وقدمت لهم ما يعينهم على البقاء.
ماركو في صفوف الجيش
وقد تداول رواد مواقع التواصل صوراُ للشاب “ماركو” ابن السيدة رجاء نيكولا عضو مجلس السيادة السابق، وهي من الطائفة القبطية، وهو يحمل السلاح ويرتدي زي القوات النظامية، مدافعاً عن وطنه وأهله، وقد حظيت الصورة بردود أفعال واسعة، نظراً لتلاحم كل مكونات الشعب السوداني، والطوائف الدينية، في خندق واحد مع القوات النظامية، باعتبار أن العدو يستهدف الجميع.
وقد وجد أقباط السودان أنفسهم ضحايا لهجمات مليشيا الدعم السريع، مع استهداف بيوتهم وكنائسهم، على نحوٍ خاص.
إيليا، الذي رفض الإفصاح عن اسمه بالكامل، خشية استهداف متمردي الدعم السريع له، قال لـ(المحقق) إنه شهد في الأيام الأولى للحرب واقعة اقتحام المليشيا للكنيسة القبطية في شارع النيل بالخرطوم، حيث كان متمردو الدعم السريع يبحثون عن الذهب والمجوهرات بشراهة!!
وأضاف إيليا: “لقد رأيتهم وهم يطلقون الرصاص على جدران الكنيسة، طلبوا منا النزول إلى الأرض على أيادينا، وتسليم مفاتيح السيارات وكل الأموال والهواتف التي نملكها”، لافتاً إلى أنهم أجبروا الأسقف على فتح الخزينة، ونهبوا كل ما بداخلها.
بعد ذلك تم اقتحام كل الكنائس بهدف سرقتها ونهب محتوياتها، من بينها كنيسة “مارجرجس” بالخرطوم، والتي تعتبر من أقدم الكنائس القبطية في السودان، وهددوا العاملين طالبين الكشف عن مكان الأموال والذهب، كما أطلقوا النار على ثلاثة أشخاص وجرى ضرب مساعد الأسقف بالعصي ما تسبب له بكسور.
حرق كنيسة ود مدني
لم تكن الاعتداءات على الأقباط ودور العبادة المسيحية فقط في الخرطوم، وإنما تواصلت جرائم الدعم السريع ضد دور العبادة في ولاية الجزيرة، حيث أضرموا النار في المقر الرئيسي للكنيسة الانجيلية المشيخية بمدينة ودمدني، مطلع هذا العام 2024، ما تسبب في أضرار بالغة طالت المبنى.
وقضى الحريق على مستندات رسمية وشخصية، فيما حمّل قادة الكنيسة قوات الدعم السريع المسؤولية الاخلاقية والقانونية إزاء الحادثة، لكونها تقع تحت سيطرة قواتهم في المدينة.
وقال الأمين العام للكنيسة الانجيلية المشيخية القس يوسف مطر في تصريحات صحفية إن الحريق وفقاً للمعلومات التي استقوها كان متعمداً، وقصد تدمير المنشآت الدينية للطائفة المسيحية، وتدمير تاريخ الكنيسة الذي يتجاوز المائة عام بعد أن قضى على المكتبة الرئيسية التي تحوي مستندات تاريخية، علاوة على تدمير الصالة الكبرى.
وإزاء تدمير ونهب الممتلكات القيمة قامت المليشيا كذلك بتدمير كل ما كتبه وجمعه ووثقه الكاتب الصحفي والقاص السوداني نبيل غالي من أرشيف السودان الأدبي والثقافي، وحطمت بيته وأحلامه ومذكراته وذكرياته، وتفاقمت معاناة زوجته التي رحلت بعد الحرب. وقد اشتهر نبيل غالي الذي – كرمه أمس جهاز المخابرات العامة بمبادرة من إذاعة بلادي – اشتهر في المجتمع الإعلامي والأدبي بأجمل ما عند الأقباط السودانيين من صفات المحبة والجدية والالتزام وإشاعة السلام والاحترام.
ووصف مدير جهاز المخابرات العامة، الفريق أول أحمد إبراهيم مُفضّل، المُحتفى به نبيل غالي، بأنه مثال للسوداني الأصيل المُخلص لوطنه ومجتمعه ومهنته.
وقال إن نبيل غالي أنفق أكثر من نصف قرن من حياته في خدمة الصحافة والثقافة والفنون، ما يجعله مستحقاً للتكريم والتقدير والاحتفاء من جميع السودانيين، وعبّر مُفضل عن أسفه على انتهاكات مليشيا الدعم السريع التي طالت الكنائس والمساجد بقصد نهبها وتدميرها، واستهداف حقوق ومكتسبات المسلمين والمسيحيين دون استثناء.
حكاية أقباط السودان
من الصعب تحديد تاريخ معين لدخول الأقباط السودان، لكن تأثيرهم في المشهد العام انطلق مع بداية القرن العشرين، وقتها كان السودان مستعمرة إنجليزية، وتحسنت ظروف الأقباط سريعًا بسبب حظهم الوافر من التعليم، فتوسعت إسهاماتهم في كل نواحي الحياة، وظهرت طموحاتهم السياسية عندما طالب الأب فيليو ثاوس فرج في إفطار رمضاني، حضره الرئيس السابق البشير مطلع العام 1997، بمقعد وزاري للأقباط في الحكومة.
يستقر الأقباط خاصة في المدن السودانية ذات الطابع التجاري والإداري، وربما يرجع ذلك لاهتمامهم بقطاع التجارة. ويلاحظ وجودهم بكثافة في العاصمة الخرطوم وأيضًا في مدن عطبرة ومدني والأبيض والقضارف وسنار. ويتضاءل وجودهم في مدن شمال وغرب السودان. وقد ضمت العديد من الأحزاب السودانية شخصيات قبطية بارزة، من بينها عبد الله النجيب في قيادة الحزب الاتحادي، ولطيف صباغ في حزب الأمة، وسمير جرجس في الحزب الشيوعي السوداني، بجانب المحامي نبيل أديب في قوى الحرية والتغيير، التي غادرها بعد ذلك، فيما رشحت معلومات غير مؤكدة عن انضمام الأب فيليو ثاوس فرج للمؤتمر الوطنى، سيما وأنه أعلن دعمه للرئيس السابق عمر البشير في حملته الانتخابية الآخيرة.
ورغم اختلاف التقاليد، إلا أن المناسبات الوطنية والأعياد الدينية تجمع الأقباط مع مسلمي السودان ويتزاورون في الأفراح والأتراح، وطالما اشتهرت في السودان أغان جميلة كانت تتعرض لقصص حب فتيات قبطيات، منها “أنة المجروح” و”ظبية المسالمة” و”قصة ريدة بين مسلم ومسيحية”.