تقارير

أفريقيا الغربية تفلت من عقال الراعي الفرنسي

المحقق – محمد عثمان آدم

في أقل من أسبوعين تلقت فرنسا خبرين قاصمين في علاقاتها الخارجية، إذ أعلنت السنغال فسخ أي تعاون عسكري مع باريس وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي فيها والذي استمر لأكثر من ثمانية عقود (88 عاماً)، فلحقت بتشاد التي أعلنت، هي الأخرى، إنهاء الوجود العسكري الفرنسي الذي ظل قائماً وقوياً لأكثر من ستة عقود (66 عاماً).

وقد شهد العام الحالي أيضاً، إكتمال ترتيبات إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في كل من النيجر ومالي، وقبلهما بوركينا فاسو لتصبح فرنسا بذلك خارج المعادلة الأمنية المباشرة في كل منطقة الساحل والصحراء الأفريقية.

وفي كل هذه الدول كان القاسم المشترك وفق بيانات صادرة من أعلى السلطات الرئاسية والخارجية هو “تحقيق السيادة الوطنية الكاملة” على التراب الوطني، دون أن يعني ذلك قطع العلاقات الثنائية بينهم وفرنسا. لكن الذي لاشك فيه أن أحد أهم الأذرع الفرنسية و مصدر قوتها في المنطقة، كان الوجود العسكري و ما يعنيه ذلك من تدخل خفي و جلي أحياناً عند كل تحرك انقلابي في هذه الدول، تكون فرنسا أحياناً هي مَن يصنعه.

فقد أعلن الريئس السنغالي، باسيرو ديوماي فاي، قبل أيام إنه يجب على فرنسا أن تغلق قواعدها العسكرية في بلاده التي تستعد لإحياء الذكرى الثمانين للمذبحة الاستعمارية سيئة السمعة التي وقعت هناك على أيدي الفرنسيين عام 1944م.

وكان ما بين 350 إلى 400 جندي من منطقة غرب أفريقيا شاركوا مع الجيش الفرنسي في معاركه عام 1940 قد قتلوا على يد الجنود الفرنسيين في أول ديسمبر 1944، وذلك بعد ما وصفته فرنسا بأنه “تمرد بسبب عدم دفع الرواتب”.

وكان الجنود يتبعون لوحدة تسمى “الرماة السنغاليين” وهي وحدة مشاة استعمارية في الجيش الفرنسي. ووفقاً للمؤرخين، “كانت هناك خلافات بشأن الأجور غير المدفوعة في الأيام التي سبقت المذبحة”، ولكن في ذلك اليوم – أول ديسمبر – جمع الجنود الفرنسيون “الرماة السنغاليين” وغالبيتهم كانوا غير مسلحين، وأطلقوا عليهم النار وقتلوهم جميعاً!!

وفي مقابلة مع وكالة الانباء الفرنسية قال الرئيس السنغالي إنه يقدر للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إقراره بأن قوات فرنسا مسؤولة عن “المذبحة” التي وقعت على الجنود السنغاليين في عام 1944 لكن السماح بوجود قواعد فرنسية في بلاده سيتعارض مع سيادتها الوطنية. وأصاف إن “السنغال دولة مستقلة، وهي دولة ذات سيادة والسيادة لا تقبل وجود قواعد عسكرية في دولة ذات سيادة”.

و أكد رئيس السنغال أن هذا العمل لا يشكل مقاطعة وقطيعة مع فرنسا، مثل تلك التي شهدتها أماكن أخرى في غرب أفريقيا في السنوات الأخيرة، في إشارة لمجموعة النيجر و بوكينا فاسو و مالي.

وفي أحد ردوده على أسئلة الوكالة الفرنسية أوضح الرئيس السنغالي أن “الصين أصبحت اليوم أكبر شريك تجاري لنا من حيث الاستثمار والتجارة. هل للصين وجود عسكري في السنغال؟ لا. هل هذا يعني أن علاقاتنا مقطوعة؟ لا”.

وعلى الجبهة التشادية، أعلن وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن غلام الله، في بيان رسمي، أن بلاده تود إبلاغ الرأي العام الوطني والدولي بقرارها إنهاء اتفاقية التعاون الدفاعي الموقعة مع الجمهورية الفرنسية والمعدلة في 5 سبتمبر 2019، والتي كانت تهدف إلى تعزيز التعاون في شؤون الدفاع بين البلدين، وقال المسؤول التشادي إن بلاده اتخذت هذا القرار بعد تحليل عميق ووصلت إلى قرار بعد 66 عاماً من الاستقلال، مفاده أنه قد حان الوقت لجمهورية تشاد لإعلان سيادتها الوطنية الكاملة والشاملة وتحديد أولوياتها الاستراتيجية وفقًا لمصالحها الوطنية، وأضاف إن هذا لا يعني قطع العلاقات مع فرنسا إذ تظل تشاد منفتحة على التعاون في المجالات المختلفة بما يخدم مصالح البلدين.

وبقرار كل من تشاد والسنغال، يكاد الشريط الفرانكفوني المباشر جنوب الصحراء والذي تتولى الآن السلطة فيه مجالس عسكرية استولت على الحكم في العديد من الدول الناطقة بالفرنسية الأخرى في غرب ووسط إفريقيا، بما في ذلك مالي وبوركينا فاسو والنيجر، خالياً من الوجود العسكري الفرنسي، وهي دول لجأت إلى روسيا للحصول على مساعدات أمنية بدلاً من الوجود العسكري المهدد المباشر والمشارك في كثير من الانقلابات والتغييرات التي كانت تقع في تلك الدول.

ونقلت وسائل إعلام فرنسية أن فرنسا تفاجأت بقطع تشاد للعلاقات العسكرية مع باريس و قالت “هي خطوة فاجأت فرنسا”، وإذ تؤدي إلى مغادرة القوات الفرنسية للبلاد مع انهيار نفوذ القوة الاستعمارية السابقة عبر منطقة الساحل.

ولفرنسا وجود عسكري يبلغ حوالي 1000 جندي إضافة إلى طائرات حربية فرنسية.

أما اللافت في الأمر فقول إذاعة فرنسا االدولية: “يقال إن القرار فاجأ فرنسا، حيث لم يتم إبلاغ وزير الخارجية جان نويل بارو – الذي كان في تشاد يوم الأربعاء – بالقرار.”

و لم يتم نشر هذه الخطوة على موقع وزارة الخارجية التشادية إلا بعد أن كان بارو على متن طائرته لمواصلة جولته الأفريقية متوجهاً نحو إثيوبيا.

ولم يتصل الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي بالرئيس إيمانويل ماكرون أيضًا. وقال مراقب رفيع المستوى لإذاعة فرنسا الدولية إنه حتى الدائرة الداخلية لديبي بدت مندهشة من توقيت الإعلان.

وفي الوقت نفسه، ورد أن الرئاسة الفرنسية ومكتب رئيس الوزراء وهيئة الأركان العامة للجيش وأجهزة الاستخبارات كانت في حالة من الاضطراب يوم الجمعة، مع عقد اجتماع لمجلس الدفاع عن الأزمة في قصر الإليزيه. و وفقًا للدبلوماسيين الفرنسيين الذين يسافرون مع بارو، لم يكن هناك ما يشير إلى أن نجامينا ستصدر مثل هذا الإعلان الكبير.

بعد الإجتماع بين ديبي وبارو يوم الخميس، وصف وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن غلام الله فرنسا بأنها “شريك أساسي”، لكنه قال إن تشاد “نضجت وأصبحت دولة ذات سيادة” تحرس سيادتها عن كثب.

و مع تحرر الساحل الفرانكفوني، من الهيمنة العسكرية الفرنسية، إلا أنه ليس واضحاً بما يكفي استكمال خطوات الاستقلال المالي، إذ ما يزال “الفرنك الأفريقي” مرتبطاً بالفرنك الفرنسي، ويدار كلاهما من البنك المركزي في باريس!

ويرجح مراقبون أنه ستقوم – دون شك – حملة جديدة في الغرب للتخويف من أن هذه الدول “الفالتة من عقال الراعي الفرنسي”، والتي كسرت نير التبعية، ستلجأ الآن إلى موسكو و الصين طلباً للدعم، وسيكثر الحديث عن ترحيب هذه الدول بجنود روس يعملون في جميع أنحاء منطقة الساحل، فدولة مثل فرنسا لن تتخلى عن ضرع حلوب بتلك السهولة و الأيام حبلى بالمفاجآت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى