رأي

أمحها يا علي .. هذه هي القاعدة الذهبية

دكتور سليمان بلة علي

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة بعد أن ضيّق عليه أهل مكة من قبيلة قريش، من أهله ورحمه، وظلم ذوي القرابة أشد مرارة؛ فما تعرض له الرسول وصحبه الكرام من صنوف الأذى والعذاب والمقاطعة الاجتماعية شيء لا يُطاق. إلا أن الله قد أعدهم لحمل الرسالة، فصبَّرهم على الأذى، فأذِن الرسول لأصحابه بالهجرة الأولى إلى الحبشة ثم في الثانية إلى المدينة المنورة، ثم لحق بهم بعد بيعة العقبة وتكفل أهل البيعة بحمايته.

وبعد أن أذن له الله بالهجرة، وبعد أن استقر به المقام في المدينة، وفي العام السادس من الهجرة، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فجهز نفسه وأصحابه وتوجهوا صوب مكة حتى نزلوا بالحديبية.
حينها اعترض أهل مكة على دخول الرسول إلى الحرم، فلم يقاومهم بل نزل إلى الحوار بينه وبين أهل مكة، فكان يحاور عن أهل مكة سهيل بن عمرو، وتم ما اصطلح عليه باسم صلح الحديبية.

وعندما جاءوا لكتابة الصلح، وكان الكاتب سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال له الرسول: أكتب “هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله”، فاعترض سهيل على عبارة “رسول الله” وقال: لو كنا نؤمن بك أنك رسول الله ما رددناك. أكتب محمد بن عبد الله. فلم يعترض الرسول بل لم يحاججه فيها، وقال: (أمحها يا علي)، إلا أن سيدنا علي رفض أن يمحوها، فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت تلك قاعدة ذهبية في التفاوض والخصومات والمنازعات على المستوى الشخصي والمستوى العام.

ما أكرمك، ما أفصحك يا رسول الله! “أمحها يا علي” ما أحوجنا لهذه القاعدة وما أحوجنا لمثل هذه المعاني القيمة.
ولنقرأ هذه القاعدة مع موقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ظافراً منتصراً وعدوه منكسراً، ووقف أهل مكة أمامه منكسرين مهزومين، فقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟
فقالوا خطاب استرحام: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
فما كان رد الرسول؟ وهو يتأمل أهل مكة الذين آذوه وأصحابه الذين أخرجوه من مكة، أحب بقاع الأرض إليه، وهو يودع مكة مهاجراً فينظر إليها ويقول: “إنك أحب بقاع الأرض إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.

الآن رسول الله يتأمل فيمن آذوه وأخرجوه، فقال لهم: “إذهبوا فأنتم الطلقاء”.
فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
ما أعظمك يا رسول الله! ما أكرمك، يا رسول الله! لم ينتصر لحظ النفس، ولا لأحداث الماضي الأليم الحزين، لم ينتصر لعمه حمزة، لم ينتصر لمن هاجروا وفقدوا الديار والأموال؛ لأنه أراد أن يبني أمة خالية من الأحقاد، يبني وطناً يسع الجميع ويسهم في بنائه الجميع، فقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
فهل نتخذ من هذه المبادئ والقواعد الذهبية نهجاً لبناء السودان بعد معركة الكرامة؟

هل نتذكر (امحها يا علي)؟ وهل نتذكر (إذهبوا فأنتم الطلقاء)؟
هل هذه كبيرة في سبيل بناء الأمة؟
وتجارب العالم من حولنا خير شاهد: جنوب أفريقيا والمصالحة الاجتماعية، رواندا ونبذ القبلية، الهند وتعدد الأديان واللغات واللهجات والطبقات.

دعونا ننظر إلى المستقبل ونقول: القادم أحلى، والقادم أجمل وأفضل.
لن يتأتى هذا في ظل التناحر، ولن يتأتى في ظل التشاحن والتدابر والأنانية ونظرة الاستعلاء لكل طرف.
لن نبني وطناً إن لم نتسامح، ولن نبني أمة إن لم نتنازل، ولن نبني مستقبلاً لجيلنا إن لم نغير ما بأنفسنا.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
كيف نبني أمة ونحن متشاكسون داخل البيت والأسرة والقبيلة والحزب، كل قوم بما لديهم فرحون؟
دعونا نبني سوداننا وفقاً لهذه القواعد: (امحها يا علي).
على أن نبني تشريعاً لبناء أمة يتساوى فيه الجميع ويسهم فيه الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى