الإضطراب العالمي….. وتوازن القوى….أين السبيل؟؟

السفير بدر الدين عبد الله
لم يشهد المسرح الدولي إضطراباً وخروجاً عن المألوف في السياسة الدولية يشابه ما يحدث في الوقت الراهن منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، والذي نسف حينها نظام القطبين العالمي (امريكا والإتحاد السوفيتي) ليحل محله نظام القطب الواحد الذي نصّب الولايات المتحدة الأمريكية كقائد أوحد ، يملك أعتى قوة عسكرية وإنتشار جيوسياسي عرفته الأرض ، وأقوى إقتصاد يمتلك كل أسباب التفوق والدينماكية والأفق الواسع للنمو وناصية التكنولوجيا الحديثة في جميع المجالات ، بالإضافة للشرعية والقبول الدوليين والتسليم لها بزعامة العالم.
وتزامن مع ذلك، حينها، تعزيز أوروبا لوحدتها بإتفاقية (ماستريخت) التي أُنشيء الإتحاد الأوروبي بموجبها ، وإعتمادها لعملة اليورو الموحدة ، وإلغاء االضوابط اّلحدودية (شنغن) ، وإتفاقيات الدفاع المشترك، محصّنة بضمان أمريكا لأمنها ..، مما جعل الغرب ،على ضفتي الأطلسي ، يتمتع بنفوذ عالمي غير مسبوق وشرعية عالمية لإدارة شؤون العالم دون منازع خلال عقد التسعينات من القرن العشرين.
ولكن (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) صدق الله العظيم.
إلا أن أحداث 11_ 9 جاءت بما لا تشتهي أشرعة سفن الغرب بتفاعل إدارة الرئيس بوش (الإبن) الإنفعالي الأيديولوجي مع الأحداث وإشتطاطهم في رد الفعل بنية مبيتّة ، فبدأوا بحرب أفغانستان بدعم ومساندة قوية من حلفائهم الأوروبيين وشرعية أممية، ثم حرب العراق التي لم يحالفهم فيها سوى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إذ لم يكن لها أي مسوغ موضوعي وإفتقرت للشرعية الدولية وعدم وجود أي دليل على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل أو علاقة بتنظيم القاعدة كما إدّعت الادارة الأمريكية. ليبدأ من حينها إنهيار منظومة الغرب الحاكم للعالم ، وساهمت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 في المزيد من التدهور في صورة الغرب ، وشوهت الحرب الأمريكية على الارهاب الشرعية الأخلاقية.
خلال تلك الفترة (العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) بدأ العالم يتغيّر، وبدأت موازين القوى تتحوّل ، وبدا واضحاً أن الأرض تهتز تحت النفوذ العالمي للغرب ، ليميل ميزان القوى شرقاً. فبينما كانت أمريكا مشغولة بحروبها الإنتقامية كانت الصين بهدوئها المعتاد وحصافتها ورصانة سياستها الخارجية ، تتقدم بإضطراد إقتصادياً بمعدلات نمو غير مسبوقة حتى إحتلت المرتبة الإقتصادية الثانية عالمياً، وإكتسبت المزيد من النفوذ الجيوسياسي عبر الإستثمارات ومبادرة الحزام والطريق ، وإستطاعت بناء قاعدة تكنولوجية ضخمة وصناعة حديثة ومتطورة ، لتنقلب علاقتها مع أمريكا من تعاون إستراتيجي ، للحد من النفوذ السوفيتي ،حينها ، إلى وضعها في مرتبة العدو الأول الذي يهدد المكانة والنفوذ الأمريكي عالمياً.
لم تكن الصين وحدها التي نهضت محققة مكانة دولية رفيعة ، بل إن روسيا بقيادة الرئيس بوتين قد إستعادت عافيتها الإقتصادية بالإستفادة من موارد الطاقة الهائلة لديها وبعزيمة وطموح استعادة مجدها الإمبراطوري المفقود، وأصبحت تنافس في النفوذ الجيوسياسي العالمي ، وتوجت ذلك بإحتلال شبه جزيرة القرم فيّ عام 2014 . وعلى ذات المنوال استطاعت الهند تحقيق قفزات إقتصادية وتكنولوجية معززة مكانتها العالمية كأكبر ديمقراطية على وجه الارض. لتنخرط المنطقة الأسيوية في إستعادة مكانتها الدولية التي فقدتها قبل ثلاثة قرون بإجتياح الإمبريالية الاستعمارية الأوروبية للعالم.إذ ظلت أسيا صاحبة المرتبة الأعلى في سلم إجمالي الناتج القومي العالمي على امتداد ثمانية عشر قرناً (حتى عام 1800 ميلادية كانت آسيا تساهم بنحو 60% من إجمالي الناتج العالمي) أي أن الصعود الراهن للصين والهند لا يعدو أن يكون استعادة طبيعية لوضعيتهما العالمية.
الوضع العالمي الراهن:
أمريكا في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب الثانية، وهي لم تكمل بعد شهرها الثالث، أظهرت ميلاً أنانياً وإنعزالية وحمائية لا تليق بدولة قائدة للعالم ، وذلك من خلال تنزيل شعار (أمريكا أولاً) الى أرض الواقع العالمي بهجمة شرسة على كل ما تعتقد أنه يسلبها قوة إقتصادية أو نفوذاً جيوسياسياً، ولم تستثن حتى جيرانها القريبين (كندا والمكسيك وبنما) أو حلفائها الدائيمين في أوروبا، فبعثرت كل أوراق اللعب الدولية لتقرّب روسيا (عدو الأمس) وتهاجم الصين (صديق الأمس) وتهدد أوكرانيا وتلوح بقبضتها الدبلوماسية والعسكرية في الشرق الأوسط ومهمّشة للمنظمة الدولية ومنظوماتها ، محدثةً بذلك إضطراباً غير مسبوق في السياسة الدولية ، مما جعل دول العالم وأقاليمه، دون إستثناء، تتحسس بصورة غريزية كل ما لديها من كروت لإستخدامها في حماية مصالحها في ظل عالم تسوده عدم اليقينية، وتدنت الثقة في قيادة أمريكا للعالم إلى الحضيض وفقدت مشروعيتها السياسية والأخلاقية المتآكلة أصلاً.
أوروبا الحليف الدائم لأمريكا والجناح الآخر لمنظومة الغرب ، وجدت نفسها فجأة في مواجهة حرب تجارية مع حليفها، والأهم من ذلك مأزق أن تتولى أمنها بنفسها ، بعد أن ظلت تستمتع بالحماية الأمركية لأكثر من 75 عاماً، موليّة كل جهودها تلقاء التنمية والرفاه الإجتماعي . ولا يبدو أنها قد تنبهت لتحذيرات الرئيس ترمب لها في دورته الرئاسية الأولى (2017-2021) بأن عليها أن ترفع نسبة مساهماتها في الدفاع وحلف الناتو. وعندما أيقنت بالخطر الوجودي الذي يتهددها إندفعت في قمتها الأخيرة إلى إعتماد مبلغ 800 مليار يورو لتعزيز ترسانتها العسكرية والدفاعية.
لكن من شأن ذلك أن يزيد من الضغوط على إقتصاداتها التي تعاني أصلاً من تدني النمو الإقتصادي والإنهاك من تداعيات الحرب الأوكرانية وشيخوخة مجتمعاتها، بالإضافة لتقلص نفوذها الجيوسياسي في ظل إستفاقة ويقظة سياسية جماهيرية عالمية ترفض الاستغلال المباشر والخفي لثروات الشعوب ومواردها. في جانب آخر فإن مواقفها المخزية من الإبادة الجماعية في حرب غزّة قد خصمت من رصيدها الأخلاقي وأصبحت تمارس أستاذيتها على العالم في حقوق الإنسان والقانون الدولي على إستحياء. ذلك في مجمله يجعل مستقبل الغرب عموماً وأوروبا بصفة خاصة في قيادة العالم وفرض ما تدعيه من قيم، على المحك ، ويؤدي تدريجيا لتوزع النفوذ العالمي وبروز قوى عالمية أخرى للمشاركة في قيادةة العالم.
الصين ، بعيدة عن أي تدخلات وإلتزامات خارجية مالية أو سياسية أو عسكرية مرهقة ، تواصل مسيرتها التصاعدية في كافة المجالات بما في ذلك التكنولوجيا المتقدمة في المجال العسكري وفي فضاء الذكاء الأصطناعي ، وإستطاعت مؤخراً ،بعد أن غيّرت قواعد وأنماط الصناعة التقليدية بإستنباط تكنولوجيا حديثة ورخيصة، مزاحمة اليابان والمانيا في صادرات السيارات ، وتعمل على الهيمنة على سوق السيارات الكهربائية بعد أن استحوذت على معظم خام المعادن الصناعية النادرة في العالم ، وهي معادن لاغنى عنها في الصناعات المدنية والعسكرية الحديثة، وإحتكرت تصنيعها وسلاسل توريدها. كما حققت إنجازات مقدرة في النفوذ الجيوسياسي خاصة في المياه الدولية المتحكمة في التجارة العالمية من خلال (مبادرة الحزام والطريق) ،وباتت أقرب ما تكون من أي وقت مضى لتحقيق المرتبة العالمية الأولى والتربّع على عرش العالم.
وقد إعترف لها كيسنجر بأنها تمارس القوة بمسؤولية.
روسيا تبدو في طريقها لتحقيق أهدافها من الحرب على أوكرانيا، التي ارهقتها إقتصادياً وعسكرياً ، في ظل تغيّر السياسة الأمريكية وميلها للتقارب مع روسيا على حساب أوروبا، وأصبحت في ذات الوقت أقرب من اي وقت مضى إلى الصين حيث تنامت العلاقات الاستراتيجية بين البلدين وإن ظلت في حدود حذِرة وليست منفتِحة بشمولية كما أن هذا التقارب مهدد بسياسات أمريكية جاذبة لروسيا.
الهند كأكبر كتلة سكانية في العالم مماثلة أو متفوقة على الصين تحافظ على نمو اقتصادي وتكنولوجي متصاعد وفي طريقها لتصبح عملاقاً في مجال الصناعات عموماً والدفاعية بصفة خاصة مستفيدة من تفوقها في مجال تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي. لكن عداءها التاريخي مع باكستان يحِد ويُقعِد من تطلعها نحو العالمية، ولاتنّفك تناقضاتها الداخلية من فقر وتفاوت كبير في المستويات الاجتماعية مقروناً بالسياسات المتحيّزة إثنيا تقلل من وزنها الدولي وتحِد من قدرتها على الانطلاق إلى آفاق عالمية أرحب.
اليابان ، على الرغم من أن رئيس وزرائها قد بادر بزيارة واشنطن فور تسنم الرئيس ترمب للرئاسة كحليف، إلا أن الإلتزام الأمريكي خاصة في جانب الحماية الأمنية والميزات التجارية لا يبشر بخير في ظل الأنانية الأمريكية للتكسُب من الأصدقاء قبل الأعداء ، خاصة وأنها في وضع إقتصادي يميل إلى الإنحدار وشيخوخة محدقة بالمجتمع والقوى البشرية العاملة التي تمثل الميزة النسبية الإقتصادية الأبرز لها.
الشرق الأوسط كفاعل عالمي مهم من الناحية الجيوإستراتيجية وكمصدر للطاقة وكمركز ثقل للعالم الإسلامي بكل ما يمثله في المعادلة الدولية، يعيش حالة من الغليان وجيشان المشاعر والإضطراب الشديد منذ إندلاع حرب غزة وما تبعها من تداعيات بسبب الإنفلات الإسرائيلي ، بدعم مباشر من الغرب، وتجاوزها لكافة الخطوط الحمراء في عدوانها الذي، بالإضافة لأهل غزة وفلسطين، إمتد ليشمل لبنان وسوريا واليمن وإيران وهدد مصر والأردن، وتلاسنت مع السعودية وقطر، مما أدى لحالة عداء شعبي عارم للغرب عموماً ولأمريكا بصفة خاصة. وصب إنتصار الثورة السورية المفاجئ والسريع ، ،في ظل هذه الأجواء الإنفعالية، المزيد من الزيت على نيران المنطقة الملتهبة بتغييره لموازين القوى، بما تمثله الشام من أهمية تاريخية وجيوإستراتيجية في المنطقة و العالم ، خاصة مع إنزلاق تركيا بثقلها العسكري والإقتصادي ومصالحها الأمنية والإستراتيجية، الى أتون أحداث المنطقة التي تغلي بكل مافي الكلمة من معنى ، لتكون في مواجهة على النفوذ الإستراتيجي مع أيران وإسرائيل.
وسط كل هذا الزخم ظل دور وفاعلية الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى المعنية بالقانون الدولي والإنساني والسلم والأمن الدوليين في تراجع مستمر. فمنذ تجاوز أمريكا للأمم المتحدة ومجلس الأمن في حرب العراق ، بدأت المؤسسات الدولية تفقد هيبتها وفاعليتها وأصبحت على هامش الأحداث ولا تتجاوز ( التعبير عن القلق) وإصدار القرارات غير القابلة للتنفيذ وتآكلت مصداقيتها بصورة كبيرة ، وأصبحت منذ إندلاع حرب غزّة لا يؤبه بها ، وتجاهلت إسرائيل، مدعومة من أمريكا ، كافة القرارات والأعراف الدولية المرعية، بل وتعرض الأمين العام للإهانة وموظفيه للإعتداءت المباشرة والقتل دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكناً. ويضيف الإستهداف الأمريكي المباشر لمؤسساتها بالإنسحاب من عضوية بعضها وحجب المساهمات المالية من أخرى المزيد من التهميش لدور هذه المؤسسات الدولية التي ظلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية المرجعية الأولى والأهم لكل قضايا العالم ، على الرغم مما شاب أداءها من عثرات.
المستقبل…. إلى أين يتجه العالم؟؟
في عالم اليوم من الصعب التنبؤ بالمستقبل فالوقائع على الأرض تفوق كافة التوقعات وتسابقها ، وأصبح إيقاع الأحداث يتسارع بصورة غير مسبوقة. فإرسال تويته من على منصة X أو صاروخ باليستي بضغطة زر كفيل بإحداث زلزال سياسي يتردد صداه في كل أرجاء الأرض بتفاعلات مختلفة . وما كان يحتاج لسنوات لإحداث تغيير في العالم ، أصبحت أشهر معدودة أو أيام كفيلة بإحداثه. ولكن هناك معطيات قوية تشير إلى الوجهة التي ربما يأخذها العالم في النصف الثاني من العقد الحالي ، على الأقل قبل نهاية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الامريكي ترمب. ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
1. المفكر الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق زبيغنيو بريجينسكي (1928-2017) في كتابه الذي صدر في العام 2014 بعنوان (رؤية إستراتيجية – أمريكا وأزمة السلطة العالمية).. توقع إنهيار حتمي للغرب وأمريكا إذا لم ينتبها للمخاطر المحدقة، حيث قال (إن من شأن غرب ممزّق جيوسياسياً وذاتي التمركز ، أن ينزلق الى هوة إنحطاط تاريخي) .. وأضاف في قراءة فطِنة للمستقبل (من شأن مكانة أمريكا أن تتدهور حتماً إذا ما تمخضت وقائع داخلية سلبية ومبادرات خارجية مثيرة للإستياء دولياً من تجريد دور أمريكا التاريخي من مشروعيته) . ليس هناك أبلغ من ذلك في تصوير واقعنا اليوم بعد عقد كامل من اصدار هذا الكتاب. والحقيقة الماثلة أن سياسة ترمب لن تعدو أن تكون تسريعاً لوتيرة إنهيار الغرب ، الذي لا نراه وشيكاً بل حتمياً وفق السنن الكونية وتاريخ إنهيارالقوى العالمية والإمبراطوريات (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) صدق الله العظيم.
2. في الجانب الآخر فإن أسلوب ونمط إدارة الصين لسياستها الخارجية يتسم بالأناة والصبر الحكيم ، وفيما يبدو أنها مازالت تسترشد بشعار الزعيم الصيني دنغ هيساو بينغ (1904-1997) ، الرجل الذي وضع قاطرة الصين على سكة النهضة والنمو التصاعدي منذ العام 1978 . ويتمثل ذلك الشعار في مبادئ ظلت تحكم السياسة الصينية … (راقبوا بهدوء ،أمّنوا مواقعنا، تدبروا شؤونكم بهدوء ،حافظوا على قدراتنا، وانتظروا الفرصة المناسبة، أتقنوا فن التواضع ، حِذار إدعاء القيادة) . فالصين ليست في عجلة من أمرها ويبدو أنها على ثقة أن حضارتها المستمرة ،دون إنقطاع ، منذ أربعة آلاف عام ستصل حتماً إلى القمة. في الشرق الآسيوي لا ينازعها على الزعامة إلا الهند التي ترتبط بثقلها السكاني والاقتصادي بعلاقات تعاون راسخ مع أمريكا، مما يجعل الدبلوماسية الصينية في إختبار صعب لتوظيف عضويتهما المشتركة في مجموعة البريكس لإيجاد أرضية تفاهم مشترك لعلاقات بناءة بين البلدين بعيداً عن التنافس السلبي.
3. من المتوقع أن تلعب روسيا واليابان وتركيا دوراً تكتيكياً مرجّحاً بين الصين وأمريكا، ومن شأن تحركهما بصورة مستقلة أن يُسهِم في توزّع وتشتّت موازين القوة والهيمنة العالمية ، مما يتيح فرص أكبر للدول الناهضة والنامية الأخرى للميل تجاه بوصلة مصالحها. لكن ربما تكون لحالة السيولة هذه مخاطر أكبر على السلم والأمن العالميين في ظل غياب وعدم فاعلية المؤسسات الدولية المناط بها ذلك .فاليابان ، على سبيل المثال في حالة إرتيابها من إلتزامات وضمانات أمريكا الأمنية، تستطيع بسرعة فائقة أن تصبح قوة نووية بما يشكله ذلك من مخاطر وفي جوارها كوريا الشمالية التي تمتلك ترسانة نووية تديرها قيادة شابة غير ناضجة سياسياً , وكوريا الجنوبية التي تتوجس من اليابان بسبب مخاوف وأحقاد تاريخية ، في ظل غياب أي منظومة أمنية واسعة في آسيا.
4. منطقة الشرق الأوسط، وهي أكثر ما يهمنا في هذا المقام، ظلت تاريخياً وإلى يومنا هذا منطقة حاكمة لأي قوى أو إمبراطورية تود السيطرة على العالم بحكم وسطيتها الجغرافية وتحكّمها في أهم الممرات البحرية العالمية ، وزاد من أهميتها في الوقت الراهن تحكمها في أسواق النفط وإحتياطاته وعامل الصراع العربي- الإسرائيلي بالإضافة لليقظة السياسية التي تجتاحها منذ إندلاع ثورات الربيع العربي ومؤخراً، طوفان الأقصى والذي جاء تعبيراً عن أشواق شعبية توّاقة لإستعادة كرامة ظلت جريحة بفعل الإستعمار الأوروبي ومن بعد ربيبها الاحتلال الإسرائيلي الذي مارس أبشع صنوف الإستهانة والاستضعاف الممنهج للأمة. فالمنطقة وصلت مرحلة اللاعودة بعد طوفان الأقصى وما ترتب عليه من تداعيات. فإسرائيل التي كُسرت هيبتها وهيبة جيشها لن يهدأ لها بال وستُسرِف في العدوان على دول المنطقة مستندة على الدعم الأمريكي غير المحدود والمباشر ودون مواربة، ومدفوعة بإستراتيجيتها التوسّعية وتناقضاتها السياسية والإجتماعية الداخلية. فهي في حالة حرب مع فلسطينيي غزّة والضفة الغربية ولبنان ، وفي حالة عدوان على كل من اليمن وسوريا وأيران ، وتهدد مصر من خلال إنتهاكاتها المتكررة لإتفاقية السلام بين البلدين ، وتوشك أن تدخل في صراع إقليمي مع تركيا . ويفاقم من حالة الإضطراب والصراع وعدم اليقينية في المنطقة سياسات الرئيس الأمريكي ترمب التي يصعب التنبؤ بها ، خاصة من جانب دول الخليج التي تعتقد في الحماية الأمنية الأمريكية ، مما يجعلها في حالة توجس دائم والتفكير في خيارات أخرى إقليمية ودولية لحماية أمنها والحفاظ على إستقرارها. ويمثل الميل الأمريكي لإستخدام القوة العسكرية بدلاً عن الحوار مع إيران أكبر مخاوف دول الخليج ، لما يمكن أن تكون له من تداعيات كارثية على المنطقة.
أين السبيل….؟؟
رئيس الوزراء السنغافوري الأسبق لي كوان يو (1923-2015) في مذكراته وبعد فترة حكم طويلة إمتدت لأكثر من ثلاثة عقود يقول، وقد كان صديقاً لبريطانيا العظمى ثم من بعد صديقاً لأمريكا (التاريخ يُظهر أن التوازن لا يستقر لحال) ويقول في مذكراته أيضاً (أن الأمريكيين يفكرون بلغة الأرقام والمساحة والحجم)!!! . وفي ظل عالم مضّطرب ويزداد إضطراباً يوماً بعد يوم وفي ظل قيادة عالمية أنانية ومتآكلة ومؤسسات ومنظمات دولية عاجزة، ليس من خيار سوى إعداد كل دولة صغيرة أم كبيرة لكل ما تستطيع من قوة إقتصادية وتكنولوجية ودفاعية وقبل ذلك وحدة وتماسكاً داخلياً ، ومن بعد ذلك ليس في الإمكان أن تكون الدولة لوحدها ، لابد من شبكة من التحالفات الإقليمية والدولية المتوافقة مع إرادتها ومصالحها وأمنها. ويصدُق ذلك ربما أكثر في حالة الدول العربية والأفريقية التي مازال معظمها في طور النهوض أو النمو ومازالت منظومة مؤسساتها الإقليمية وشبه الإقليمية ضعيفة وغير فاعلة وواقعة تحت النفوذ الغربي ،وبذلك فهي لا تشكل درعاً يقيها من عوادي الدول والمجموعات الأخرى المتقدمة والمتماسكة.
على كل حال ، من البشريات في النظام العالمي الجديد الذي يتخلق ، والذي سيكون للصين فيه دوراً قيادياً، إعتراف المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر في مذكراته (أن الصين إكتسبت وزناً سياسياً كبيراًعلى الساحة الدولية ، توظفه بقدر كبير من المسئولية).