رأي

الجيش السوداني: سبعون عاماً من الصمود (2-2)

عز الدين بيلو

أكدنا في المقال السابق أن الجيش السوداني كان وما زال هو الجيش الوحيد في دول المنطقة الذي استعصى على التركيع من دول الاستكبار العالمي التي عملت عبر عملائها على تغذية حركات التمرد في المنطقة وكسر جيوشها وتسليم السلطة لمن يوالونها.

ورأينا كيف أن جيوش منطقة جوار السودان تساقطت أمام حركات التمرد التي استلمت السلطة في كل من الكونغو الديمقراطية ويوغندا وتشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى، في سنوات متقاربة رغم أنها لم تستمر في قتال الجيوش الوطنية في بلادها سوى أعوام تعد على أصابع اليدين حتى استطاعت كسرها واستلام السلطة، بينما ظل الجيش السوداني يقاتل حركات التمرد منذ العام 1955 ولم ينكسر أمامها.. ولم تستطع أي من تلك الحركات – والتي فاقت المائة حركة – من الوصول إلى السلطة في البلاد إلا بموجب اتفاقيات سلام لم تكسر ظهر الجيش أبداً.

لكنا نجد أنه ومنذ تمرد الوحدة العسكرية في توريت في 18 أغسطس 1955م.. لم يواجه الجيش السوداني طعنة نجلاء في خاصرته.. كالتي تلقاها في 15 ابريل 2023م بتمرد قوات الدعم السريع، ومحاولتها استلام السلطة بالقوة وحل الجيش القومي.

لقد أدى ظهور التمرد في دارفور في العام 2003 إلى بروز مليشيات “المراحيل” من جديد، وهم بعض القبائل ذات الأصول العربية في إقليمي كردفان ودارفور، الذين عمدت حكومة الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس نميري وحكومة الصادق المهدي إلى تسليحها لمساعدتها في حربها ضد تمرد جون قرنق وحماية قبائلها، واستغلت حكومة الإنقاذ شجاعة مقاتلي هذه القبائل لمجابهة حركات التمرد في دارفور، فعملت على استيعابهم وتقنين وجودهم، فتم إعادة تشكيل قوات حرس الحدود بموجب قرار رئاسي عام 2007 تحت مسمى “استخبارات حرس الحدود”، وإلحاق مقاتلي المراحيل بهم، وفي منتصف عام 2013 انتقلت تماماً من مرحلة الميليشيا إلى قوات الدعم السريع تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، قبل أن يصدر رئيس الجمهورية وقتها – عمر البشير – القرار الجمهوري رقم (351)، في 21 أبريل 2016، ليجعلها تتبع له مباشرة بصفته القائد العام للجيش، وتم تقنينها قانونياً بموجب قانون قوات الدعم السريع الذي أجازه المجلس الوطني في جلسته رقم 43 من دورة الانعقاد الرابعة في 18 يناير 2017، والذي منحها الاستقلال كقوة عسكرية الأمر الذي أثار كثيراً من ردود الأفعال وسط بعض القيادات العسكرية، لكن ما كان أحد منهم يجرؤ على الجهر باعتراضاته أمام الرأي العام.

كانت قوات الدعم السريع وقت إجازة قانونها تضم حوالي ال 40000 مقاتل مجهزين بعربات قتالية سريعة الحركة ومجهزة تماماً بكل ما يعين على القتال.. وأسهمت مع الجيش في دحر التمرد وحصره في أضيق نطاق..
ومن الأخطاء الكارثية لنظام البشير بعد منحه الاستقلالية العسكرية لقوات الدعم السريع أن منحها فرصة خلق علاقات خارجية، وذلك بعد اتجاههم إلى العمل في مكافحة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية صوب أوروبا، وهذا الأمر خلق لهم علاقات وتواصل مباشر مع بعض الدول الأوربية، كما أن مشاركتهم في “عاصفة الحزم” في اليمن ضد الحوثيين منذ العام 2015، فتح لهم الباب لإقامة علاقات مباشرة مع السعودية والإمارات، والتي وجدت ضالتها في حميدتي، ليسهم لها مع آخرين في إسقاط نظام البشير الإسلامي، خاصة وأن الدولتين تتوجسان من إقامة أي نظام إسلامي في المنطقة.

ويبدو أن عملية إبعاد حميدتي عن البشير قد نجحت تماماً من قبل الإمارات، ففي بداية الثورة على البشير تمّ استدعاء قوات الدعم السريع من دارفور إلى الخرطوم لتسهم في السيطرة على الاحتجاجات، لكن حميدتي وبعد أن ضمن تمركز قواته حول الخرطوم رفض المشاركة في قمع المظاهرات، بل كان ضمن أعضاء المجلس الأمني الذي أجبر البشير على التنحي، ثم أجبر نائبه الفريق عوض بن عوف أيضاً على التنحي عن قيادة المجلس العسكري الانتقالي والذي غادره حميدتي ولم يعد إليه إلا بعد أن تولى الفريق عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي حيث قام بترقية “حميدتي” إلى رتبة فريق وتعيينه نائباً له في قيادة المجلس العسكري، ومن ثم مجلس السيادة.

وفي يوليو من عام 2019، تم تعديل قانون قوات الدعم السريع بحذف مادة منه تلغي خضوعه لأحكام قانون القوات المسلحة، وهو ما عزز من استقلاليتها تماماً عن الجيش.
وكل ذلك كان من الأخطاء الكارثية التي ساعدت الدعم السريع على التسليح والتدريب بعيداً عن الجيش، ومن هنا، وبإيعاز من قوى دولية واضحة للجميع تشكلت لدى حميدتي بوادر التمرد على الجيش واستلام السلطة في البلاد، فزاد عدد قواته حتى صارت أكثر من 100000 مقاتل خاصة بعدما نجح في استقطاب عدد كبير من ضباط وضباط صف الجيش الذين أحيلوا للتقاعد والمعاش الاختياري.

ورغم أن القانون يعرف قوات الدعم السريع بأنها “قوات عسكرية قومية التكوين تعمل تحت إمرة القائد العام وتهدف لإعلاء قيم الولاء لله والوطن، وتتقيد بالمبادئ العامة للقوات المسلحة السودانية”.
لكنها خرقت ذلك وأطلقت محاولتها الانقلابية في 15 ابريل 2023 معلنة تمردها على القوات المسلحة.. بل وطالبت القائد العام للجيش بتسليم نفسه، واعتقلت العشرات من قياداته بعد أن فاجأتهم بإعلان الحرب من حيث لم يحتسبوا.. لكن ما يحمد للجيش أنه قد امتص الصدمة الأولى، وظل يقاتل القوات التي ائتمنها على كثير من المقار الحيوية في البلاد بحسبانها قوة من قوات الجيش.. لكنها خانت الأمانة ولم ترعاها حق رعايتها..
ورغم سقوط بعض الفرق العسكرية التابعة للجيش في يد قوات الدعم السريع، لكن ما يزال عظم القوات المسلحة قوياً وعصيا على الكسر، سواء في العاصمة والتي كانت ولتخطيط دقيق من الدعم السريع ومن يقف وراءه يعتقدون أن استلامها واستسلام قادة الوحدات العسكرية فيها لن يستغرق يوماً أو بعض يوم من انطلاق الطلقة الأولى، ولكنهم تفاجأوا بصمود وحدات عسكرية فيها ما تزال عصية على الاختراق سواء في المدرعات بالشجرة الخرطوم أو سلاح الإشارة بالخرطوم بحري، أو سلاح المهندسين بامدرمان. أما في الولايات فقد تكسرت هجماتهم المتمردة أمام الفرقة السادسة مشاة بالفاشر، والفرقة 22 ببابنوسة، والفرقة الخامسة مشاة هجانة بالأبيض، وحاولوا مع الفرقة الثانية بالقضارف، لكنها ردتهم على أعقابهم في محاور الفاو وغيرها.

إن قوات الدعم السريع تدرك أن هناك فرقاً من الجيش لم تدخل الحرب بعد، أو دخلت في مناوشات معها لم تكتمل مثل الفرقة الثالثة بشندي، والفرقة الرابعة بالدمازين، والفرقة العاشرة ب (أبوجبيهة)، والفرقة 11 مشاة بحلفا الجديدة، والفرقة 12 بسنكات، والفرقة 14 بكادوقلي، والفرقة 18 بالنيل الأبيض، والفرقة 19 بمروي، وغيرها من الوحدات العسكرية والأسلحة.

لعل من زين لحميدتي التمرد على الجيش، كان يعتقد أن انقلابه العسكري سيكون خاطفاُ على شاكلة الانقلابات العسكرية السابقة، والتي ما كانت تتطلب سوى بيان من قائد الانقلاب حتى ولو كان من رتبة أدنى كما حصل في مايو 1969، أو في يونيو 1989، وتأتيه بيانات التأييد من قادات الفرق والوحدات العسكرية المختلفة، وذلك بحسبان أنه كان النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، ولكنهم تناسوا رفض الجيش لحركة 2 يوليو 1976 رغم أنها كانت تضم قادة الأحزاب الرئيسة في السودان يومئذ وما ذاك إلا لأنهم رأوها حركة متمردة على الجيش فتمت مقاومتها بقوة وقتل وأسر المشاركون فيها، وهذا سيكون مصير تمرد الدعم السريع.. طال الزمن أو قصر.

التحية لقواتنا المسلحة في عيدها السبعين، وهي ما تزال صامدة في وجه المؤامرات التي تحاك ضدها، ونسأل الله أن يثبت أقدام مقاتليها في كافة المحاور، وأن يخزي عدوهم.
نسأل الله الرحمة والقبول لشهدائها، وعاجل الشفاء للمصابين منهم، وأن يرد الأسرى والمفقودين إلى أهلهم وديارهم آمنين سالمين.
اللهم آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى