رأي

الخطاب السياسي في حملات الانتخابات الأمريكية… دروس وعبر

رمضان أحمد

تابعت بعض حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية الجارية واستمعت لبعض المتحدثين، فخرجت بدروس مهمة جداً نحن شعوب العالم الثالث عموماً والسودان خصوصاً أحوج ما نكون إليها.

وقبل أن أتطرق لهذه الدروس أرجو أن أؤكد أن محتوى هذا المقال لا يمتدح السياسة الأمريكية بأي شكل من الأشكال. إذ تظل نظرتنا للدولة الامريكية وسياستها الخارجية قائمة، فهي دولة امبريالية تتجرد سياستها الخارجية من الأخلاق والقيم، وتقوم فقط على المصالح، حتى لو اقتضى ذلك احتلال الدول أو دعم الأنظمة القمعية ورمي قيم حقوق الإنسان في القمامة، والتمسك بكل ما من شأنه فرض الهيمنة الأمريكية.

بعد هذه المقدمة دعوني أدخل في لب الموضوع وهو الخطاب السياسي في الحملات الانتخابية الأمريكية. فقد شاهدت خطابات للسيدة ميشيل أوباما ولزوجها باراك أوباما وللسيدة أوبرا وينفري. الأخيرة هذه هي من أشهر مقدمي البرامج الحوارية ولها مبادرات إنسانية رائعة.

الخطاب السياسي للحزب الديمقراطي عموماً وهؤلاء الثلاثة خصوصاً موجه لكل الشعب الأمريكي عموماً ولأنصار الحزبين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي خصوصاً، مفاده “بصرف النظر عن السفينة التي جاءت بأجدادك إلى الولايات المتحدة، فنحن الآن في سفينة واحدة”.

هذا الخطاب السياسي الوحدوي هو ما تحتاج إليه الشعوب في أوقات الانتقال السياسي لأنه يطمئن الناس ويبعث فيهم الأمل ويزيل كل الحواجز الثقافية والدينية والعرقية والسياسية ليجعل الوطن هماً للجميع تتقاصر دونه كل الطموحات الشخصية والفئوية وغيرها. هذا النوع من الخطاب يصدر دائماً من جهة واثقة من نفسها ومن ثقة الجمهور، جهة تحمل مشروعاً وطنياً يستهدف الرقي والتقدم والنهوض.

أما أسوأ خطاب سياسي في مثل هذه المراحل من حياة الشعوب هو الخطاب الذي يستعدي جهة ما ويجعل هذا الاستعداء هدفاً. وهذا ما يفعله أنصار الحزب الجمهوري وأنصار ترامب خصوصاً في حملتهم الانتخابية، حيث يجعلون من الفقراء الذين انقطعت بهم السبل في دول أمريكا اللاتينية الذين يبحثون عن فرص أفضل للحياة ويتسللون عبر الحدود الجنوبية، يجعلون منهم عدواً لحملتهم الانتخابية. من شأن هذا النوع من الخطاب وأي خطاب موجه ضد فئة مجتمعية معينة أن ينشر الكراهية، بحيث تجد نفسك تكره انساناً وتنزع إلى شيطنته وأنت لا تعرفه أصلاً وليس بينك وبينه عداوة بخلاف أنه مصنف عندك مع “الآخر”. هذا النوع من الخطاب يصدر من جهة غير واثقة من نفسها، متوجسة من كل شيء، فتلجأ إلى هذا النوع من الخطاب لإثارة الكراهية ضد الجهة المنافسة أو القريبة من الجهة المنافسة.

تتعرض الولايات المتحدة حالياً لأسوأ مرحلة في تاريخها الحديث، إذ إن الرئيس السابق دونالد ترامب نشر الكراهية في فترة رئاسته الأولى مما أدى إلى إحداث انقسام حاد في المجتمع الأمريكي لأول مرة، وما زالت البلاد تعاني من تداعيات فترة ترامب الأولى. ولعل احتلال كابيتول هيل في 6 يناير 2021 من قبل أنصار ترامب هو أكبر شاهد على النتائج الكارثية لخطاب الكراهية. بالإضافة إلى ذلك بدأت أمريكا تدفع ثمن سياساتها الخارجية الداعمة للأنظمة القمعية وللاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن التدخل السافر في شئون الدول. ما حصل هو أن شعوب العالم اليوم أصبحت أكثر وعياً وإدراكاً للمصلحة الوطنية المهدرة على أيدي الأنظمة العميلة. وفي ظل التعددية القطبية بدأت الدول تتململ من سلوك الولايات المتحدة. وليس أدل على ذلك من تسابق الدول للانضمام إلى عضوية بريكس بلس.

السيد أوباما وزوجته يتميزان الاثنان بقوة الشخصية والقدرة على التأثير وبراعة في الخطاب، ومعهما السيدة أوبرا وينفري الشخصية الإعلامية المعروفة التي بنت نفسها من لاشيء وأصبحت من أثرياء الولايات المتحدة ولكنها في نفس الوقت اهتمت بالفقراء وأنشأت مدارس ومؤسسات تعليمية في أفريقيا. الخطاب الصادر من هؤلاء الثلاثة وغيرهم في حملة الحزب الديمقراطي هو الخطاب السياسي الذي يجب أن يسود في كل مراحل الانتقال السياسي في حياة الشعوب.

الخطاب الصادر من هذه الشخصيات الداعمة لحملة المرشحة الرئاسية عن الحزب الديمقراطي كمالا هاريس له بعد عميق ومؤشر حقيقي لوجهة السياسة الأمريكية في المرحلة القادمة، لأن الجاليات الأمريكية من غير العنصر الأبيض أصبحت مؤثرة في البلاد ويتناسب معها هذا الخطاب السياسي تماماً.

صحيح، السياسة الأمريكية مرسومة مبكراً ولا يملك الرئيس المنتخب أن يغير فيها ولكن الأهم في الامر أن هناك تحركاً كبيراُ جداً على مستوى القواعد الشعبية ووعياً مرتفعاً بضرورة “فعل شيء ما”. وهذا هو الشعار السائد حالياً في حملة كمالا هاريس. و”فعل شيء ما” يعني بالضرورة إعادة النظر في السياسة الداخلية والخارجية، بصرف النظر عن المدة التي ستستغرقها عملية التغيير هذه، علماً بأن بداية النهاية واضحة للعيان.

يمكن أن نلخص أهم الدروس من الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية على النحو التالي:

• المصلحة الوطنية تعلو فوق أي مصلحة أخرى.

• الخصومة السياسية تظل سياسية مهما بلغت شدتها ولا تمنع تعاون المتخاصمين والتنسيق بينهم فيما يخص المسألة الوطنية

• الخطاب السياسي الرشيد هو ذلك الخطاب الذي يُعلي المصلحة الوطنية ويتسامى فوق المرارات ويشحذ الهمم ويوحد الكلمة ويبعث الأمل في مستقبل أفضل.

• الشخصية الوطنية هي تلك التي لا تعرف الانتماء إلا للوطن.

• مراحل الانتقال السياسي هي أكثر المراحل هشاشة في حياة الشعوب، ولا تحتمل ضبابية الخطاب فضلاً عن خطاب الكراهية.

• إن ظهور الكراهية في الخطاب السياسي، حتى لو كان ضد فئة معزولة من شأنه أن يسمم الجو السياسي ويمهد للحروب الأهلية.

• الخلافات السياسية مهما بلغت شدتها فإن مجال حسمها هو صندوق الاقتراع وليس صندوق الذخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى