ثقافية

الذاكرة السودانية: أم درمان.. مؤشرات الوعي لبلورة الشخصية السودانية

محمد الشيخ حسين

المدن في السودان متعددة وأشباهها كثيرة ومعظمها شيده الأجانب، وحدها أم درمان برزت مدينة سودانية خالصة استطاع الإمام المهدي قبل قرن من الزمان أن يتأسي ويترسم نهج الرسول (ص) في بناء دولة المدينة حين ركب الإمام المهدي ناقته وتركها تسير حتى استقرت في المكان الأمين أو البقعة المباركة وفيها وضع المهدي لبنات عاصمة الثورة المهدية.

كما أن لأم درمان أبوابا كثيرة تصب في أحيائها العريقة، كذلك أم درمان العمارة والمنارة، أما أن تدلف إليها من باب الماضي والعراقة أو من باب الحاضر والمستقبل وحيثما دخلت فالنتيجة واحدة والشاهد أن كل الأبواب في أم درمان مفتوحة للداخلين والخائضين. ولحظة لقائك بأي أم درماني أصيل يرسخ في ذهنك على الفور بأن أهل أم درمان متميزون ومتفوقون على بقية سكان السودان. ولعل سر هذا التميز عندهم أن الأعين في أم درمان شاخصة إلى آفاق الجمال والمجد في حين أن الأغلبية الساحقة من أهل السودان تلقي نظرة باتجاه الأقدام ومواقع الخطى.

بالقطع فإن أم درمان العمارة سبقت أم درمان المنارة في استغلال موارد البيئة المتاحة، فالحجارة جلبت من جبال المرخيات في أقصى شمال أم درمان والرخام من الخرطوم (التركية) والطوب من أنقاض دولة سوبا المسيحية.

وامتزجت كل هذه المواد في مبانٍ سودانية خالصة عرفت بـ (الدردر) وهي غرفة دائرية من الطين الأخضر والحجارة و (الدانقة)، وهي غرفة مربعة الشكل واسعة وهي أقرب إلى ما يعرف حاليا عند أهل الرياض والمنشية بـ Area Living وتكون عادة عالية السقف من أجل التهوية والإضاءة الطبيعية كما شيدو (الراكوبة) و (الحوش) وقد عرف أهل السودان بناء السور الخارجي للمنزل من أم درمان.

والنماذج ما زالت قائمة حتى الآن ببيت الخليفة، قبة الإمام المهدي، سور أم درمان، الطابية، بيت الأمانة.

من أين جاء الاسم؟

اختلف الناس في تسمية أم درمان وذهبوا إلى عدة مذاهب، والروايات حول الاسم جميعها شفهية، إلا أن أشهرها أن الاسم ذو تركيبة ثلاثية (أم – در – مان) والراجح أن الاسم لامرأة من جبال النوبة كان لها ابن لسبب أو لآخر وصل إلى هذه البقعة وأقام فيها ومنها جاء الاسم (أم درمان).

ورواية ثانية تقول إن الاسم يرجع إلى اللغة النوبية القديمة فكلمة (أم در امن) فيها تعني أدخل الماء ومعناها بالعربي مدخل الماء.

ويعزز هذه الرواية أن أسماء كافة المناطق المحيطة بأم درمان لها علاقة باللغة النوبية مثل (كرري ـ جحارنا) (بري في مكان رقادنا).

ولسنا هنا في مقام ترجيح رواية علي أخرى.

ولكن الحاصل أن أم درمان كانت قرية صغيرة يسكنها بعض  المحس، وهم فرع من النوبة المعروفين تاريخيا  Nobian وبعض الجعافرة وهم قبائل عربية نزحت من مصر.

أما أم درمان المدينة فقد قامت على أنقاض مدينتي الخرطوم وبربر وكانتا مركز الحضارة والثقافة حينئذ، ولعل اختلاف الثقافات منح أهل أم درمان الإحساس بالتفوق على الآخرين.

ويمكن القول بأن الثورة المهدية استطاعت أن تصهر الأعراق المختلفة في أم درمان، لأن الحراك الاجتماعي الذي أحدثته خلخل التركيبة السكانية في السودان وجعل أهله يستجيبون لنداء الإمام المهدي ويتجمعوا في أم درمان.

ونتيجة لوضوح الهدف وعمق الطرح اختصر الإمام المهدي الزمن إلى ثلاثة عشر عاما في حين أن دولة سنار فشلت خلال ثلاثمائة عام من تحقيق هذا الهدف.

وحصاد القول إن أم درمان الثورة المهدية أبرزت مؤشرات الوعي لبلورة الشخصية السودانية.

أم درمان المدينة من حيث التخطيط العمراني فقد خطط لها أول معماري سوداني، هو الفكي الأمين ود أم حقين وقد فعل ذلك بأمر مباشر ونصيحة من الإمام المهدي مؤداها أن يعتمد على رؤساء القبائل في تسوير المساحات التي تخصهم، ومن ثم قسمت المدينة إلى أربعة أرباع، ولعل في هذا التقسيم نقلة معمارية فقد كانت أم درمان قبله قرية كبيرة والبيوت فيها غير مسورة وتفتح في بعضها.

وتبع هذا ازدهار الأحياء القديمة والتي اكتسبت أسماءها من قادة الثورة المهدية. والأمثلة ما زالت باقية مثل أبوروف، ودنوباوي، أمبدة.

وفي حي المسالمة استقر الهنود واليهود والأقباط والأغريق وجميع الأجانب الذين رضوا بالثورة المهدية.

مظهر أخير شهدته نشأة المدينة تمثل في ازدهار الخلاوي لتحفيظ القرآن الكريم. وقد كانت الخلوة مظهرا اجتماعيا أكثر من ممارسة دينية، لأن بعض المسيحيين كانوا يقيمون الخلاوي في أم درمان لتحفيظ القرآن.

أم درمان المنارة 

أم درمان المنارة جاءت محصلة بشر جمعتهم وحدة الهدف والمصير فقد مزجت الثورة المهدية الأجناس والأعراق المختلفة في بوتقة كان حصادها المواطن الأمدرماني الذي يفتخر دائما بأن قادة ثورة 1924م بقيادة علي عبد اللطيف جميعهم من أولاد أم درمان. مؤتمر الخريجين رائد الحركة الوطنية ازدهر في أم درمان.

كرة القدم عرفها أهل السودان من أم درمان.

أول امرأة أصبحت عضوا في المجلس البلدي من أم درمان وهي الحاجة ريا وكانت تعمل في تجارة المحاصيل.

أول فتاة دخلت المدارس العليا في السودان كانت من أم درمان وهي الدكتورة خالدة زاهر. وكانت أيضا أول فتاة سودانية تعتقل في تظاهرة.

ويجوز لأهل أم درمان أن يفتخروا بأن جميع من وصل إلى سدة الحكم في السودان منذ استقلاله عام 1956م، باستثناء الفريق طيب الذكر  المرحوم إبراهيم عبود والمشير عمر البشير كانوا من أم درمان، والطريف أن الذين حكموا السودان من مواطني أم درمان خرجوا تقريبا من منطقة واحدة لا يتعدى طولها الخمسة كيلومترات.

وفي أم درمان نشأت مكتبة ثقافية أول مكتبة سودانية جعلها صاحبها الشيخ حسن بدري منتدى لكتيبة الشعراء الذين تنافسوا فيها على امارة الشعر وتبادل الهجاء.

وفي أحد أدراج هذه المكتبة جمع الشيخ حسن بدري ذخيرة طيبة من أشعار الغزل والهجاء والمدح، والطريف أنه أطلق على هذا الدرج اسم (درج السفاسف)، لو أن أهل الأدب أو دعاته الآن اهتموا بمحتويات هذا الدرج جمعاً  وتصنيفا وتحقيقاً لأصبحت خير شاهد على ازدهار حركة الشعر في أم درمان.

أما أثار أم درمان على الأدب السوداني فشواهدها كثيرة والقائمة طويلة من الشعراء والأدباء في مقدمتهم التجاني يوسف بشير، معاوية محمد نور، عرفات محمد عبد الله.

حقيبة الفن 

انسحبت آثار التوحد في البنية الاجتماعية والثقافية على مسيرة الفن والغناء في أم درمان وتجسدت في بروز العديد من الشعراء والمغنين والمغنيات وفي بروز العديد من الشعراء والشكارات والحداثات ونساء (الإورط).

لعل أبرز شاعر عرفته أم درمان هو خليل فرح الذي توفي شابا، ولكنه خلف شعراً غنائياً جميلا. وقد نعي نفسه وهو يتغني بمآثر أم درمان في قصيدته المشهورة (ما هو عارف قدمو المفارق).

ومضت مواكب الشعراء والفنانين في ربى أم درمان؛ كرومة، سرور، عتيق، تلودي، عبيد عبد النور، أبو صلاح، العبادي، عبيد عبد الرحمن.

ومن الفنانين الذين سطعت نجومهم في سماء أم درمان إبراهيم عبد الجليل، أولاد الموردة، ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة، زنقار والفاضل أحمد ود العمايا وأغنيته المشهورة (يا عيني وين تلقي المنام أحبابك جفوني).

تمحور كل هؤلاء في مرحلة فنية هامة في تاريخ الغناء عرفت بأغنيات الحقيبة والتي نقلت الأغنية السودانية إلى مرحلة الغناء الحديث، كما مهدت للإعلان عن موت (الصائع) ومولد (الفنان) في السودان.

ولا يكتمل مشوار أم درمان الفني دون الإشارة إلى أم الحسن الشايقية وعائشة الفلاتية وفي مرحلة لاحقة نصرة وقسمة وأخيرا حنان بلوبلو.

أخيراً، من ثنايا تلك الملامح، هل يمكن القول إن أم درمان العمارة مهدت لأم درمان المنارة في سياق تطور طبيعي للمجتمع لا أثر للصنعة فيه؟ وهل بالإمكان اعتبار أن الأمر كان مدخلا لبلورة ملامح الشخصية السودانية.

لسنا في مقام الإجابة، ولكن النقلة السريعة من عوالم التاريخ المجيد إلى واقع أم درمان. الآن قد تختلف الصورة وربما بهتت قليلا فهي تنوء بحالة من التكدس التي تطبق عليها.

وشوارعها تكاد تختنق تحت وطأة الزحام البشري وقوافل السيارات. إضافة إلى جهود مبعثرة ولجان كثيرة لإحياء وتطوير المدينة العريقة وخير ختام قول الشاعر عبد المنعم عبد الحي (لو إنسان صبح قصة أنا القصة يا أم درمان).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى