ملفات

الذاكرة السودانية: طبقات يوسف فضل لإعادة بناء الذات السودانية

محمد الشيخ حسين

ينتمي البروفسيور يوسف فضل حسن إلى جيل سوداني كان يأتيه في مقتبل العمر طيف شخص من نور وجمال وحكمة، يقول له: هات يدك يا بني، فأنا أعرف أن في رأسك عقلا مختلفا ومتوثبا للتطور، كما أعرف أن في طوايا نفسك طموحا يضج يريد الخروج والتحليق، وأعرف أنك تريد أن تضع لك مكانا بارزا في المستقبل من ضمن أمة بارزة في التاريخ. فهات يدك يا بني لا تتردد ضعها في يدي، دعني أدلك على طريق المستقبل.

لكن يبدو أن السير في طريق المستقبل أو رحلة البحث عن نسايم المعرفة قد شغلت البروفسيور يوسف كثيرا عن أن يروي لنا حياته، نشأته أو صباه. ولم اكن كثير علم بتلك السيرة النضرة وبعض مما سيأتي مقدمة لطبقات يوسف فضل، جاءت إثر نقاش حميم معه أو أحاديث مختلفة يذكر فيها طفولته وبعض مراحل تعليمه..

علمياً تحفظ عملية تدوين تاريخ السودان للبروفسيور يوسف، أدراكه منذ وقت مبكر، أهمية تحقيق المخطوطات في نسخها المختلفة وإقامة علاقات متميزة مع شهود عيان ورواة وشيوخ وأحفاد الذين لعبوا دورا بارزا في تاريخ البلاد. وفيما يبدو لي أن البروفسيور يوسف حين غامر بتحقيق كتاب طبقات ود ضيف الله، كان على ثقة تامة بأنه يؤسس لعهد نضوج الاهتمام الوطني بالمخطوطات السودانية في مدوناتها المتعددة وأزمنتها المختلفة.

تبدأ سيرة البروفسيور يوسف من قرية تبورة  بالمحمية، وهي قرية صغيرة تنام على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد عن الخرطوم بنحو 240 كيلو مترا شمالا.

وتبورة واحدة من  قرى كثيرة تنتشر في منطقة المحمية التي يحميها عدد من الأولياء الصالحين. وتنتشر في المنطقة أسماء لها عراقة في التاريخ منها سقادي وقباتي، وكلها ليس لها من اللغة العربية شيء، وربما كانت هي أسماء نوبية قديمة منذ عهد إمبراطورية مروي.

والسكان في قرية تبورة جلهم من الجعليين وبينهم عدد كبير من الفادنية.

وينتمي أهل البروفسيور يوسف إلى الفادنية الذين هم أبناء الإمام علي ابن أبي طالب عبر ابنهم محمد بن الحنفية، لكنهم اختلطوا بالجعليين اختلاطا من الصعب عليك أن تفرق بين من هو جعلي ومن هو فادني اختلطوا بالعالياب، واختلطوا بالكتياب غرب النيل، واختلطوا بالمكابراب على مشارف الدامر، واختلطوا بالجابراب.

وتذخر هذه المنطقة بآثار كثيرة جدا ترجع إلى آلاف السنين، وهناك كتاب يحتوي على نحو 600 صفحة عن التاريخ القديم لهذه المنطقة نشره المتحف البريطاني باللغة الإنجليزية، وهو موسوعة علمية مهمة جدا لمعرفة تلك المنطقة وجذورها.

عندما ولد البروفسيور يوسف مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كان جل السكان الذين يعيشون في المنطقة  يعملون في الزراعة. ومع ضالة المساحة المتاحة للزراعة (الجروف) كان السكان يكملون حياة الزراعة هذه بالرعي. وفي موسم الأمطار يخرجون كلهم إلى الأودية خاصة وادي الهواد. وفي نفس الوقت خرج كثير من الناس من تلك المنطقة إلى العمل في الخارج خاصة الشباب، فتجدهم في: بورتسودان، سنكات، أروما، وقر، متاتيب، مكلي، وكسلا. ووصل بعض منهم  إلى إريتريا، وبلغوا مدينة تسني أو سهني كما يقول أهل المحمية.

وحسب الأحوال التي كانت سائدة كانوا يعملون غالبا في التجارة، وقلة منهم نالوا تعليما كبيرا حتى يلتحقوا بوظائف الحكومة، وبعضهم كانوا عمالا في السكة حديد، وهذه من الوظائف التي كانت مفتوحة لهم.

في ذاكرة البروف يوسف من أيام نشأته الأولى في قرية تبورة ذهابه إلى الخلوة، كواحدة من المناشط، لكنه كان يخرج مع جدته لأمه سيرا على الأقدام إلى مسافة حتى يصلا موقعا مناسبا. وذات مرة ضلا الطريق وكادا أن يتوهان (يضهبا)، لكن عناية الرحمن أوصلت الجدة والحفيد إلى المنزل سالمين.

وفي بعض الأحيان كان يخرج مع عمته إلى شاطئ النيل، حيث الجروف التي يملكونها. وفي ذلك الخروج يشبع الطفل يوسف نفسه بأكل قطع الصمغ السائل على لحاء الأشجار.

على أن عالم محطة السكة حديد كان المظهر المهم في المحمية في تلك الأيام، خاصة أن كل قاطرات السكك الحديدية تتوقف فيها لنحو عشرين دقيقة، ومثلما يقول الناس في ذلك الوقت لتشرب، لأن القوة أو المادة التي تستخدم في الدفع في ذلك الوقت هي الفحم الحجري.

وكان سكان المحمية في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، يذهبون كلهم إلى تلك القطارات التي تتوقف لعشرين دقيقة خاصة قاطرات الركاب، ويبيعون منتجاتهم المحلية من السعف: بروش، تبروقات، مندولات، وحبال. والنساء كبيرات السن كن يحملن هذه المنتجات ويبعنها لركاب القطارات. أما الصبية فكانوا يبيعون الشاي والقهوة، وكان حظ البروفسيور يوسف (الطفل) أن باع القهوة وكان يعود سعيدا بعائد اليوم كله الذي يبلغ قرش ونصف القرش أو قرشين في أحسن الحالات، وتلك كانت أيام سعيدة.

أما بعد

تلك السطور مجرد مقدمة لرواية طبقات يوسف فضل، وهي ليست (سيرة ذاتية) للبروفيسور يوسف فضل حسن، إنما هي مجرد محاولة لاكتشاف جوانب من شخصية رجل قدر لي الاقتراب منه والمعرفة المباشرة له والتعامل معه في مستوى فكري راق ملؤه الجد والحرية والتشاور والشفافية والاختلاف الرفيع أحيانا فيما يحلو فيه الاختلاف ويصح ويفيد. واسميتها طبقات تبركا بإنجاز البروفسيور يوسف الأكبر تحقيق طبقات ود ضيف الله، لأنه استطاع بعد بحث جاد وتنقيب دوؤب أن يرجع النسختين المطبوعتين من الطبقات إلى أصولهما، ويضيف إليهما ست نسخ مخطوطة أخرى، جاعلا عمدتها نسخة البريات، بحكم أنها أقدم النسخ المخطوطة، وأقربها إلى الأصل، خاصة عندما نعلم أن النسخة الأصلية من طبقات ود ضيف الله قد فقدت أثناء الثورة المهدية. وهكذا أصبح البروفسيور يوسف أول من حقق طبقات ود ضيف الله تحقيقا استوفى كل المعايير العلمية المتعارف عليها في تحقيق المخطوطات، ومتخذا لموقف محايد، بدا واضحا في إشارته (ليس على المحقق في مثل هذا العمل الموضوعي أن يجعل نفسه حكما على معتقدات الناس، بل واجبه في المقام الأول استجلاء الحقائق في منهج علمي).

وحينما نطالع بعطاء الرجل العلمي والبحثي نجد أنه يساوي أكثر من نصف قرن من الزمان قضاها في البحث والعلم. إنه يوسف فضل المتجدد بإبداعه.

نجوم مغربية

على نهج الطبقات، انفتحت الساحة العلمية بخطوات متسارعة، لكن غالب الظن أن تفرد البروف يوسف ارتكز على أن معرفة ماضي الأجداد ومحموله الثقافي يعد نقطة انطلاق أساسية نحو مستقبل مشرق؟

نجوم مغربية تشرق في سماء السودان، تمثل هذه العبارة

جديد البروف يوسف فيبدو أنه اعتمد على فكره الثاقب وعلمه الغزيروحمل قلمه وورقه وسار في طريق شاق مضن وأعد كتابا مهما بعنوان (ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر) رصد فيه تأثر السودانيين بالإنتاج العلمي المغاربي في جانبيه الفقهي والصوفي.

وأحدث كتاب البروف يوسف الذي يقع في 80 صفحة من القطع المتوسط صدى كبيرا في الصحافتين المغربية والسودانية، وأثار أحاديثا وشجونا وانتقادات في الوسائط الإعلامية الإلكترونية.

ويعتبر الكتاب الذي نشره معهد الدراسات الأفريقية التابع لجامعة الملك محمد الخامس في الرباط، فتحا في سيرة صناعة ثقافة التسامح، لا سيما أن الكتاب يتضمن نص المحاضرة التي تفضل البروف يوسف بإلقائها في إطار كرسي التراث الإفريقي المشترك.

ورغم أن الكتاب يغطي فترة زمنية تمتد لخمسمائة عام في بلدين تفصل بينهما عدة آلاف من الكيلو مترات، إلا أن البروف يوسف استطاع أن يعكس الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها هؤلاء الأسلاف في البلدين الشقيقين. وبين قدرتهم الفائقة على العيش في تلك الظروف دون المساومة أو التنازل عن قيمهم الأساسية.

وصور البروف يوسف في لغة جزلة تنساب بين عيني القارئ مثل اللحن عندما يكون في ثمالة خفوته، وسائط التعليم في ذلك الزمان (الحفظ والتلقين وكتابة الرجز والمدائح)، وكيف قدر المتلقون لتلك المعارف على إجادتها أدبا وفقها ولغة بصورة لا يحذقها كثير من توفرت لهم هذه الأيام وسائط التعليم الحديثة.

بتواضع الراسخين في العلم عنون البروف يوسف كتابه (ملامح من العلاقات الثقافية بين المغرب والسودان)، لكن قبل أن نقلب معا صفحات الكتاب يتعين الإشارة هنا إلى (من) التي في العنوان ليست تبعيضية بقدر ما هي تبينية، والمعروف أن (من) تأتي للتبعيض وتأتي أيضا للتبيين، والشاهد الآية الكريمة (ولتكن منكم أمة يدعون للخير).

ندلف من هذه التوطئة، إلى أن الكتاب يؤكد أن الوشائج السودانية المغربية ممعنة في القدم، وربما امتدت هذه الصلات وترسخت جذورها قبل المد الإسلامي في القرن السابع الميلادي، فمن الراجح أن سكان المغرب الأصليين من البربر في الشمال الأفريقي يماثلون النوبة والبجة من سكان سودان وادي النيل القديم عرقا ولغة.

ويفيد أن النوبة والبربر ينتمون إلى شعب البحر الأبيض المتوسط الأسمر، بينما تنسب لغتا البجة والبربر إلى المجموعة الكوشية.

ويقر الكتاب أن التواصل الحق بدأ بعد ظهور الإسلام. ففي منتصف القرن السابع الميلادي كانت موجة الفتوحات العربية الإسلامية الأولى قد بلغت كلا من دنقلا في سودان وادي النيل وساحل المحيط الأطلسي.

ويخلص الكتاب في هذه التوطئة إلى أن الحضارة الإسلامية، امتدت في زمن وجيز وارفة الظلال، من أواسط آسيا عبر الشمال الأفريقي حتى جبال البرانس في أوربا، وأثَّرت تلك الحضارة على أجزاء كبيرة من أفريقيا وصبغتها بطابعها. وهكذا أتاح دخول النفوذ الإسلامي إلى أفريقيا فتح صفحة جديدة في العلائق الثقافية بين العرب وجيرانهم الأفارقة، وتمهيدا لظهور نقلة نوعية كبيرة في تاريخ ذلك التواصل الثقافي، حيث أصبح الإسلام عماد الثقافة العربية، وأضحت اللغة العربية مستودع العقيدة الإسلامية، وصار الحرف العربي وعاء لتلك الثقافة.

وفي إطار الحضارة الإسلامية ظهر مصطلحا بلاد السودان والمغرب. وهنا تبرز أهمية هذا الكتاب من جهة أنه يسد النقص الواضح في قلة ما دوِّن، في موضوع العلاقات المغاربية السودانية، وذلك بسبب ضعف التواصل في مبدأ الأمر خاصة وأن المنطقتين لم تكونا متجاورتين جغرافيا، رغم أنهما كانتا تعيشان في ظل إطار حضاري ينطلق من مرجعية موحدة ثابتة هي القرآن الكريم والسنة المطهَّرة، وكان ذلك يعطيهما وحدة السمت والصبغة والتوجه على اختلاف بيئاتها وتباين مناطقها وتباعد عصورها.

ويستفيض الكتاب في تناول العلاقات الثقافية بين سودان وادي النيل والمغرب على ضوء معطيات التواصل التاريخي البشري والفكري بين المنطقتين والتي يمكن تحديدها بعناصر: التعرف المغاربي على سودان وادي النيل، وهو ما تم عن طريق الرحَّالة المغاربيين الذين زاروا سودان وادي النيل وسجَّلوا انطباعاتهم وملاحظاتهم حوله. والهجرات المغاربية لسودان وادي النيل التي كان من نتائجها الوجود المغربي المؤثر في السودان. وكذلك دور العلماء المغاربة في نشر المذهب المالكي الذي أصبح عنصر تلاقٍ بين المنطقتين، وكذلك انتشار علوم القرآن والقراءات والتجويد. ولعل التواصل الأكبر بين المنطقتين تم عن طريق انتشار الطرق الصوفية، وانتقال العلماء والشيوخ بين المنطقتين.

ولعل من الصفات المشتركة أن تاريخ التصوف في السودان والمغرب يبرز أن المتصوفة في البلدين كانوا يتميزون بمنهج خاص في التربية والسلوك، يقوم على أساس الزهد والورع والاجتهاد في العبادة على منهج السلف، بعيدا عن لغة الأحوال والمقامات، كما أنهم لم ينقطعوا عن ممارستهم للحياة الاجتماعية العادية، وكانوا يسلكون طريق التذوق والارتقاء في مقامات أهل الطريقة وعدم المبالاة بظهور الكرامات أو حصول الشهرة ويسعون إلى التستر على كراماتهم وأحوالهم، معتمدين في طريقهم التربوي على التفرغ الكلي للمجاهدة ولقاء الأولياء والسياحة في الأرض، لكن دون انعزال عن المجتمع.

من خلال هذه الأسس التي يقوم عليها التصوف السوداني ـ المغربي يمكن استجلاء مجموعة من الخصائص أولها شمولية هذا التصوف. والثاني ابتعاده عن التجريد الفقهي والكلامي والفلسفي. والثالث عدم اشتغاله بالسياسة، وارتباطه بالجماعة والمجتمع.

وساق الكتاب عدة أمثلة لهذا التواصل الصوفي بين البلدين، لكنه لاحظ أنه ليس بين أيدينا إلا نموذج  واحد لعالم صوفي سوداني نشر العلم في المغرب في حين أننا نجد أمثلة كثيرة للعلماء والصوفيين المغاربة في السودان. وعزا ذلك إلى طبيعة المصادر المتوافرة في المكتبة السودانية، ورجح أن نجد في المكتبات المغاربية نماذج أخرى لدور العلماء السودانيين والصوفيين في المغرب.

ويرصد الكتاب جانبا آخر لهذا التواصل ظهر القرن التاسع عشر مع دخول الجيش التركي السودان وفي معيته الجنود والعلماء والموظفون المغاربة، حين شكَّل هؤلاء أساس الحوار الثقافي بين المنطقتين، كما أن في رسائل الإمام المهدي للمغرب فيما بعد صدى لهذه العلاقات التي جمعت بينهما.

وبعد أن يستعرض الكتاب دخول وانتشار الإسلام في البلدين، باعتباره العامل الرئيس للتواصل بين المنطقتين، خاصة بعد أن شكلت بلاد المغرب التربة الخصبة، لتطوير المذهب المالكي، وصحب انتشاره وتغلغل الثقافة العربية الإسلامية بين الوطنيين ظهور جيل جديد من البربر حملوا راية الإسلام العلمية والدعوية والاقتصادية معلنين بذلك بداية عهد جديد للثقافة الإسلامية المغاربية المتميزة عن ثقافة أهل المشرق فقها واجتهادا وإبداعا في مختلف ضروب العلم والثقافة والآداب والفنون. وتزامن هذا مع تقلص نفوذ المشرق العربي برحيل الفاطميين شرقا نحو مصر وقيام حكومات من البربر مثل الزيريين في تونس والحماديين في الجزائر والمرابطين في المغرب (الأقصى). وحقق المرابطون خلال القرن الحادي عشر الميلادي نجاحا دينيا وسياسيا كبيرين في المغرب والأندلس وبلاد السودان المجاورة لهما من جهة الجنوب حتى تخوم السواحل الغربية الجنوبية للقارة الإفريقية. وقد أقام المغاربة، على حد تعبير جون هنويك (إمبراطورية مالكية المذهب ذات نفوذ سياسي قوي في الجناح الغربي من العالم الإسلامي). وتعزز موقف المغرب العلمي خلال القرن الثالث عشر وما بعده، مما حمله إليه علماؤه المترددون على مراكز العلم في المشرق الإسلامي العربي، والمهاجرون المورسكيون من جراء حروب الاسترداد المسيحية بالأندلس.

وكما يتوقع فقد تأثرت بلاد السودان الغربية بهذه النجاحات العلمية الباهرة عبر التواصل التجاري الاقتصادي فقد كان للمغاربة مساهمة فعاَّلة في التجارة الصحراوية وفي نشر الإسلام المالكي.

وعن انتشار الإسلام في السودان، يفيد الكتاب أن الجغرافيين العرب أطلقوا اسم السودان على الشعوب السوداء (أو شبه السوداء) التي تقطن منطقة السافنا، الواقعة جنوب الصحراء وشمال مقدمة الغابات الاستوائية، وتحد تلك المنطقة شرقا بالبحر الأحمر وغربا بالمحيط الأطلنطي، وتنحصر بلاد السودان هذه بين خطي عرض 11ْ و17ْ شمال. ومن الشعوب التي تسكنها النوبه، والبجه، والفور، والزغاوة، والبرنو، والهوسا، ومواطنو مالي وسنغي، والتكرور، والفولاني.

وترك انتشار الإسلام آثارا عميقة في نفوس السودانيين، كما عزز مكانة الإسلام والمسلمين الوافدين بينهم مما مهَّد لنشر الطرق الصوفية خاصة القادرية والشاذلية والتجانية. ويعود سند كثير من العلماء السودانيين والمتصوفة في غرب أفريقيا للعلماء المغاربة، فقد تأثر السودانيون بالإنتاج العلمي المغاربي في جانبيه الفقهي و الصوفي.

ولا يبالغ الكتاب حين يفيد أن بلاد السودان الغربية، كانت من شدة تأثرها بالثقافة الإسلامية العربية المغاربية امتدادا طبيعيا لها، خاصة في ما أفرزته من تأثير على أجزاء من بلاد السودان الشرقية.

ولعل أشهر من قدم من المغرب الشيخ حمد أبو دُنَّانة صهر الشيخ عبد الله بن محمد بن سليمان الجزولى مؤسس الطريقة الشاذلية بالمغرب. واستقر في قرية سقادي الواقعة غرب المحمية، حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه تعاليم النصرانية في حالة انحسار بعد أن وهنت الكنيسة وتفاقمت الهجرات العربية. وعند قيام سلطنة الفونج في مطلع القرن السادس عشر، أكَّد صاحب الطبقات هذه الصورة القاتمة للوضع الديني بقوله (ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم أو قرآن ويقال إن (الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة حتى قدم الشيخ محمود العركي وعلم الناس العدة).

ويبدو واضحا لقارئ الكتاب أن السودان والمغرب، لم يشهدا تطورا متوازيا ومتوازنا في تمثلهما للثقافة العربية الإسلامية والتعبير عنها فكرا وتطبيقا. فقد كانت الديار المغاربية عامة، وبلاد المغرب الأقصى خاصة، وهو قلب هذا التواصل، أكثر انفعالا بتعاليم الإسلام وتطويرا لفكرها والتعبير عنها بإنتاج ثرّ. وكان أثر ذلك النشاط الوافر كبيرا على بلاد السودان الغربية، ففوق المساهمة المغاربية الفعَّالة في التجارة الصحراوية، ونشر تعاليم الإسلام في تلك السهول، والريادة في تأسيس دور العلم، امتد ذلك الأثر شرقا، خاصة عندما أضحى التصوف ظاهرة في الفضاء الإسلامي، وبلغ بلاد الهوسا ومملكة كانم وأصبح السودان الأوسط مركزا للاتصال الاقتصادي ونقطة هامة في طريق الحج عبر السودان. إضافة إلى أن سد باب الأندلس في وجه العرب والمسلمين، عزز اتجاه المغاربة، نحو بلاد السودان، وكان هذا التوجه هو الذي مزج المغرب بالسودان مزجا حقيقيا وأثمر تواصلا ثقافيا غنيا في مرحلة التأليف عموما، وحركة التأليف التاريخي خصوصا، ومنه تسرَّب قدر كبير من تلك المكونات الثقافية تدريجيا حتى بلغت سودان وادي النيل. وفوق هذا كله فإن مراكز الإشعاع الإسلامي المغاربي وما أنتجه علماؤها من مؤلفات رفيعة في شتى فروع المعرفة الإسلامية يجعلها في مصاف مثيلاتها من دور العلم في المشرق وأن تبذها في بعض المجالات.

إن هذا الكتاب الصغير في حجمه يلقي حجرا ضخما في بحيرة إنتاجنا العلمي الساكنة، ولعل أهميته تكمن في أنه تصوير حي لحقبات هامة من تأريخ بلادنا ورجالنا ورجالاتها بقلم عالم جليل كاد أن يكمل نصف قرن من الزمان في ميدان البحث العلمي الرائد.

أما جديد هذا الكتاب حقا، فهو أن البروفسيور يوسف فضل حسن لا ينشغل بقضايا نظرية خالصة، إن ما يشغله في هذا الكتاب هو محاولة إعادة بناء الذات السودانية في سعي حميم للإجابة عن سؤال قديم جديد فحواه (كيف يمكن للفكر المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه ويوظفه توظيفا جديدا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى