الذاكرة السودانية: قراءة في 168 عاماً من تاريخ السودان بنظرية المؤامرة

محمد الشيخ حسين
تجمع كتب التاريخ على أن السودان بحدوده الحالية عرف مع استيلاء جحافل قوات محمد علي باشا على البلاد في 1821م. وتقر بعض كتب التاريخ أن التحديث لم يعرفه أهل السودان، إلا بعد ذلك الغزو، وهذا حديث قد يطول، لكن الأستاذ جمال الشريف يقدم عبر كتاب ضخم، احتوى على 1070 صفحة من القطع المتوسط، بعنوان (الصراع السياسي على السودان 1840 ـ 2008)، قراءة جديدة لمجمل الأحداث التي عصفت بالسودان خلال الفترة التي حددها الكتاب مستنداً على نظرية المؤامرة.
المسألة السودانية من حيث الاهتمام بها وقراءتها في سياقها التاريخي تنقسم إلى مسألتين: الأولى القراءة المَدرسية التقليدية التي تستعرض الأحداث بصورة تبسيطية تجنح إلى الإسهام في المواقف البطولية، بصورة انتقائية، كي تعلو بقيمة الحدث، والأمثلة كثيرة (من أجلنا ارتادوا المنون ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون).
أما المسألة الثانية، فكتابة التاريخ جاءت باعتبارها حاجة استعمارية، لتمكين المُحتل من إدارة البلاد أكثر منها حاجة وطنية، بحسبان أن التاريخ يكتبه المنتصر بالصورة التي يهواها.
الشاهد أنه لا القراءة المدرسية التقليدية ولا الحاجة الاستعمارية قدمتا معالجة حقيقية للجدل الذي يثيره فهمنا لأحداث التاريخ والمشكلات التي يثيرها فهمنا لأحداث التاريخ وإبداء مخاوفنا منها.
غير أن الأستاذ جمال الشريف عند تناوله للصراع السياسي في السودان عبر 168 عاما كان واضحا منذ اللحظة الأولى تبنيه لنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث التي مرت بها البلاد.
ويبدو لك واضحا أن الشريف للتدليل على نظرية المؤامرة قد حشد كمية كبيرة من المراجع والوثائق العربية والأجنبية، يصل عددها إلى 232 مرجعا، لكي يكشف عن تكالب قوى الضغط على مر العصور على السودان.
وكل هذا الجهد العلمي الطيب أنجزه الشريف بصورة شخصية وبموارده الذاتية، بل أنه أنفق نحو 30 ألف جنيه (15 ألف دولار) من مدخراته الشخصية في سبيل الحصول على الكثير من هذه المراجع والوثائق من مظانها الأصلية.
وبقدر ما يحمد للشريف هذا الجهد فإن أسئلة مهمة قد تثور حول جهده هذا، من جهة أن قراءة التاريخ بنظرية المؤامرة قد لا تجد لها سوقا رائجة، بعد انتهاء الحرب الباردة، إضافة إلى أن النظرية نفسها قد تلغي كافة ملاحم النضال التي تبذل في سبيل استقلال الوطن.
ومع افتراض حسن النية، فإن نظرية المؤامرة تجعل مجمل كفاح الحركة الوطنية أسيرا لتخطيط مسبق أو رد فعل من المستعمر، وفي هذا ظلم لمجمل التجربة الإنسانية عبر التاريخ.
صحيح أن الأستاذ جمال الشريف ساق الكثير من الأمثلة والشواهد للتدليل على نظرية المؤامرة، والأمثلة في الكتاب كثيرة.
غير أن كتاب الشريف الضخم استند على مسألة في غاية الوضوح فحواها أن ما (تواجهه حكومة الإنقاذ الوطني اليوم، ما هو إلا صراع استراتيجيات بدأ منذ فترة طويلة جدا).
وقد حاول المؤلف في ختام كتابه أن يبحث عن إمكانية إنقاذ السودان من المصير الذي تسوقه إليه تلك الجماعات عبر الضغوط والمؤامرات الخارجية وعبر عملياتهم التي جرت في الماضي وتجري الآن ومستقبلا.
بدأ الشريف رحلة الصراع السياسي في السودان من العام 1840، وقد يأخذ عليه سدنة المناهج أن البداية لا يسندها منطق قوي من الأحداث، لكنه اعتبر أن زيارة محمد علي باشا للسودان في عام 1839 بداية لما سماه (تحقيق الوحدة السياسية بين السودان ومصر)، ثم غاص في تفاصيل دقيقة عن احتجاج ممثلي الدول الأوروبية ضد الوجود المصري في السودان، مسميا تلك الفترة (العهد الأول للتدخل الأجنبي في قضايا السودان 1840 ـ 1879).
ولعل النقد الذي يمكن أن يصوب لبداية الرحلة أن المؤلف لم يخض كثيراً في أن فتح السودان بواسطة قوات محمد علي تم أصلا من أجل الرجال والذهب، ولم ينتبه إلى أن فتح السودان وقع في إطار أحلام محمد علي باشا في وراثة الإمبراطورية العثمانية، لذا تزامن فتح السودان مع غزو الحجاز ومع محاولات ضم الشام.
ولعل ما يميز كتاب الأستاذ جمال الشريف عند تناول الأحداث، صبره الشديد على تفاصيل المكاتبات والتداخلات عن الدور الأجنبي في السودان حتى يصل للفترة الممتدة بين عامي 1869 و1879، التي سماها (الاستعانة بالأوروبيين في حكم السودان). لكي يصل إلى مرحلة ثانية تمتد بين عامي 1880 و1885، سماها (ظهور جماعات الضغط ومحاولة احتلال السودان)، ثم يقفز إلى مرحلة ثالثة تقع بين عامي 1885 و1898، التي سماها (مسرحية التنافس الدولي في فاشودة).
ويبدو واضحا من حيثيات هذه المرحلة أن المؤلف اجتهد في أن يدعم عبر 454 صفحة تمثل نحو 42 بالمائة من حجم الكتاب التأسيس لنظرية المؤامرة في تفسير الوقائع التاريخية حتى يصل إلى تأكيد أن ما يجري في البلاد هو (صراع استراتيجيات بدأ منذ فترة طويلة جدا).
ولعل هذا التأسيس يثير ملاحظة أولية، تتمثل في أن الثورة المهدية أو عبقرية الإمام المهدي تبدو واضحة في حالة الحراك السكاني الظاهر في نزوح سكان الغرب إلى الوسط، وهذا النزوح المتوسطي أدى إلى ظهور مدينة أم درمان من تمازج عناصر أبناء الغرب مع أبناء الوسط والشمال أو ما عرف بأبناء البحر وأبناء الغرب. وقد استفاض الراحل الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه القيم (السودان المأزق التاريخي آفاق المستقبل) في تحليل ظاهرة هذا الحراك، بل يصل إلى أن هذا الحراك يمثل ظاهرة نزوح متوسطي نحو مراكز الحضارة والثقافة في مصر. وهذه ملاحظة كانت تستحق اهتمام الكاتب، لأن غير ذلك يجعل مسألة إخضاع السودان للاستعمار البريطاني مسألة مرتبطة بجماعات ضغط كانت تسعى لرد اعتبار غردون.
وعندما نصل مع المؤلف حسب التسلسل التاريخي للأحداث إلى مشارف معركة كرري، نجده ببساطة يقرر أن فترة الحكم الثنائي الممتدة بين عامي 1898 و1956 تمثل صعود جماعات الضغط إلى السلطة والعمل ضد السياسات والاستراتيجيات البريطانية.
وهذه مسألة تبدو مختلة تماما خاصة حين يدلل المؤلف على ذلك بعدم إنفاق بريطانيا على إقامة مشاريع تنموية في البلاد.
وسيطرت على الكتاب في المرحلة التي تنتهي بنيل الاستقلال مجموعة من الافتراضات المتصلة بالشأن السوداني العام تركزت أساسا حول نظرية المؤامرة. ومضى المؤلف يفسر كل الأحداث وفقا لها واعتمد التفسير التآمري للتاريخ منهجاً لفهم الأمور واستجلاء المواقف.
وهنا نعيد ملاحظة سابقة فحواها أن بريطانيا استعمرت السودان بموجب اتفاقية الحكم الثنائي التي أعطت سيادة اسمية فقط لمصر، ومن ثم اعتمدت سياسة (فرق تسد).
صحيح أن بريطانيا كانت تدير البلاد بالحد الأدنى من الإنفاق، ولكن ليست هذه مؤامرة ضد السودان، بقدر ما كانت سياسة معتمدة لبريطانيا في جميع مستعمراتها، إذ لم يعرف للاستعمار البريطاني سعيه لإحداث أية تنمية أو عمران في البلاد التي استعمرها، وحتى المشاريع القليلة التي شيدها اتسمت بكثير من البخل وقليل من الخيال.
ونضيف إليها ملاحظة ثانية، تتمثل في أن قائمة مراجع المؤلف الدسمة جداً خلت من كتاب الدكتور جعفر محمد علي بخيت (تطور الإدارة والحكم في السودان) الذي يعتبر من أوائل وأميز الكتب التي عالجت فترة الحكم البريطاني للسودان.
قد لا يسع المجال هنا لاستعراض كل التفاصيل الدقيقة لهذه المرحلة التي تستغرق 432 صفحة، سيطرت على الكتاب في المرحلة التي تنتهي بنيل الاستقلال مجموعة من الافتراضات المتصلة بالشأن السوداني العام تركزت أساسا حول نظرية المؤامرة. ومضى المؤلف يفسر كل الأحداث وفقا لها واعتمد التفسير التآمري للتاريخ منهجا لفهم الأمور واستجلاء المواقف.
وإذا كان لي أن أسجِّل ملاحظة، فإنني أوجزها في الآتي: إذا كنَّا نرفض التفسير التآمري للتاريخ، فإننا لا نرفض نظرية المؤامرة برُمتها بل نعتقد أنها موجودة منذ ظهور الإنسان على الأرض. فمنذ الجريمة الأولى عندما قتل قابيل أخاه هابيل. وحاول أن يخفي فعلته فإننا كنا مع الميلاد المبكر لما يمكن أن نطلق عليه (فقه المؤامرة). وعلى هذا الأساس يمكن تفسير الكثير من الأحداث التي مرت في القرن الأخير بالمفهوم الواسع لنظرية المؤامرة.
ولست في حاجة إلى توضيح أن الملاحظة لا تنفي الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في الإمساك بكل العناصر المعقدة والمتشابكة في هذه المرحلة المهمة في تاريخ البلاد، خاصة أن ظلال تلك المرحلة مازالت تتحكم حتى الآن في مصائرنا بصورة أو أخرى. وهناك نقطة أخيرة تتمثل في أن المؤلف لم يول الظروف التي قادت الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري إلى تبديل موقفه من الاتحاد مع مصر إلى الاستقلال، حقها من النقاش والاستعراض، خاصة أن هناك شهادة قيمة لمصلحة الأزهري دونها العلامة الراحل عبد الله الطيب في كتابه (حقيبة الذكريات).
عندما نصل مع الأستاذ جمال الشريف إلى القسم السابع والأخير من الكتاب، يبدو واضحا أن هناك شكا في اختفاء كثير من الظواهر والأحداث تحت مظلة مؤامرة كبرى في عالم تقدمت فيه أجهزة التخابر ومراكز الأبحاث بشكل ملحوظ حيث لا توجد فوارق واضحة بين السياق الطبيعي والسياق المصطنع. فالفصل الذي يتجاوز المائة صفحة بقليل يأتي بعنوان (اتجاهات الصراع السياسي بعد الاستقلال 1956 ـ 2008). ويتعين علينا أن نتذكر هنا أن الأساليب الجديدة في الحكومات الخفية للنظم الكبرى أصبحت قادرة على خلق المصادفة وتركيب سياق أحداث متعمد ليكون حصاده إيجابيا لمن صنعوه ووقفوا وراءه.
ولعل مناسبة هذا التذكر أن المؤلف نجح في براعة شديدة أن يربط سياق الصراع السياسي وفق فقه المؤامرة، لينتهي إلى أن (التطورات السياسية التي شهدها السودان خلال الفترة من 1840 وحتى 2008م من تخطيط وإدارة جماعات اصطلحنا على تسميتها جماعات الضغط أو اللوبي).
الشاهد عند التمعن في صفحات هذه المرحلة أن دهاء التاريخ يعلمنا كل يومٍ جديد، بل يكرر الأحداث من منظور مختلف لا يتوقف عند حد معين، فأحداث انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971، كانت تحتاج إلى المزيد من التفصيل من جهة أن مرجعا مهما أعده الأستاذ محمد حسنين هيكل بعنوان (زيارة جديدة للتاريخ)، لم يرد في قائمة المراجع. ويقرر هيكل في هذا الكتاب أن الطريقة التي نفذ بها إعدام الراحل الشفيع أحمد الشيخ تعد واحدا من عشرة أسباب لتدهور العلاقات العربية السوفيتية في ذلك الوقت.
وعلى أي حال يحمد للمؤلف أنه سرد حكمه على كل مرحلة وفق ظروفها، وما قدمه من أحداث لم يكن عملا تلفيقيا يحاول إرهاق الحجة والربط بين ما ليس بينه ارتباط، ذلك أنني أظن، امتدادا لأوهام نظرية المؤامرة التي طبعت صفحات الكتاب، أن الحكومة السودانية الحالية، تواجه تحديات ومؤامرات شتى يعتقد المؤلف أن السودان ضمن الدول المستهدفة بالتقسيم، وأن الحديث عن تقسيمه طغى على غيره من الدول.
وكل هذه المخاوف مشروعة وصحيحة نظريا، لكن تماسك الجبهة الداخلية قد يجعل كل هذه المخاوف لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
الواقع بعد تداعيات 11 سبتمبر 2001م أننا بحق نعيش عصر الـ Pax- Americana بكل ما تحمله هذه التسمية من معانٍ تذكرنا بسطوة الإمبراطورية الرومانية منذ أكثر من عشرة قرون.
الحاصل أننا نعيش عصرا يسحق فيه التفوق العقلي ما عداه, وتتمكن فيه الأساليب العلمية المتطورة من اختراق العقول واستنزاف الجيوب وتحويل العالم إلى ضيعة يمرح فيها الأقوياء.
وحتى لا نبدو أحيانا مثل الأيتام على مائدة اللئام، على الرغم من أن لدينا عقليات متفوقة ومستويات تعليمية رفيعة، فإن مخرجنا الأول الآن وحدة الصف الوطني والاتفاق على هدف قومي لا تنقصنا الخبرة ولا تعوزنا الرؤية.
وحتى لا ننجر مع المؤلف في الاستغراق في تفسير المؤامرة، نخلص إلى أن حركة التاريخ علمتنا الكثير وجعلتنا نقترب من مراحل متقدمة في فهم الآخر وعقليته وأسلوب تفكيره ومزاجه البشري وحسِّه الإنساني، ولقد استقر في ضميرنا بارتياح أن الحياة صراع مستميت لا مكان فيه للضعفاء ونحن نقصد هنا بالضعفاء فقراء العقل وناقصي الخبرة ومحدودي الرؤية.
أخيرا من المبهج صحافيا، أن نستعرض كتابا ضخما في التاريخ أنجزه زميل صحفي بمجهود فردي، بل أن المؤلف الأستاذ جمال الشريف استقال من وظيفته المرموقة، ليتمكن من التفرغ لإعداد هذا الكتاب، وليستفيد من فوائد ما بعد الخدمة في توفير الكثير من المراجع النادرة.
على أية حال إنه جهد يستحق التحية والتقدير.