ملفات

الذاكرة السودانية: نصيحة هيلاسلاسي وراء انقلاب نوفمبر 1958

الذاكرة السودانية.. ملفات تسجل زيارة جديدة إلى التاريخ بهدف استنباط عصر تدوين جديد للأحداث والقضايا والشخصيات السودانية

محمد الشيخ حسين

كان الطقس السياسي السائد في السودان خلال النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي تكتنفه أمواج من الغموض، وتعتريه حالات مختلفة من غياب الرؤية، ففي اليوم الأول من يناير 1956 نال السودان استقلاله فعليا برفع العلم السوداني في مقر الحاكم العام الذي أصبح منذ ذاك اليوم بالقصر الجمهوري.

وكانت حكومة إسماعيل الأزهري قد ورثت تركة مثقلة في ظروف دولية معقدة، وظلت تباشر مهامها حتى ‏الرابع من يوليو ‏1956‏، إلا أن المعارضة السودانية تحت قيادة الختمية مارست ضغوطاً  على الأزهري لتشكيل وزارة ائتلافية‏، لكن مقاومة الأزهري لتلك الضغوط أدت إلى إسقاط حكومته وتشكيل حكومة ائتلافية برئاسة عبد الله خليل في الخامس من يوليو 1956.

ولا يسع المجال هنا للاستفاضة، لكن يمكن اعتبار اسقاط حكومة الأزهري أول محاولة من القوى التقليدية لتهميش دور القوى السياسية السودانية الحديثة وعلى رأسها التيارات السياسية التي أفرزها مؤتمر الخريجين.

عندما أُسقطت حكومة الأزهري خرج بحزبه نحو المعارضة، مؤكدا حتمية الخيار الديمقراطي والامتثال لقواعد اللعبة الديمقراطية. ودعم تأكيد خياره الديمقراطي بتجاهل نداءات بعض كبار الجنرالات في الجيش آنذاك لفرض بقائه في السلطة، وكانت خطوة مبكرة جداً من الأزهري في اتجاه رفض الانقلابات العسكرية. كما رفض الأزهري أيضاً فكرة حل البرلمان الذى أسقط حكومته والدعوة لانتخابات مبكرة.

كان هم الأزهري هنا تذكير الشعب وأنصار حزبه بأهمية الامتثال للقواعد الديمقراطية. وعندما جاءت الانتخابات الثانية تحت ظل حكومة عبد الله خليل في مارس 1958 استطاع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري انتزاع 40 دائرة في المدن والحضر، وكان يمكن للاتحاديين كقوى حديثة أنذاك الفوز في دوائر أكثر، لولا أن الحكومة عمدت إلى تقليص الدوائر في المدن ومراكز الاستنارة وزيادة الدوائر في المناطق الريفية، لأنها مركز ثقل القوى الطائفية.

وعلى الرغم من كل محاولات الحكومة لإقصائه، إلا أن حزب الأزهري قد حصل على الأغلبية الكلية لأصوات الناخبين، ولم يحصل على أغلبية في مقاعد البرلمان.

ولعل من مفارقات الممارسة الديمقراطية في السودان، أن الأزهري  رئيس الحكومة المستقيلة حصل في دائرته في أم درمان على نحو عشرة آلاف صوت، بينما أحرز عبد الله خليل رئيس الوزراء الجديد في دائرة أم كدادة في غرب السودان زهاء 2500 صوت. وهكذا جلس الأزهري وحزبه  صاحب الأغلبية الشعبية في المعارضة في حين جلس عبد الله خليل وحزبه الحزب صاحب الأقلية، في كراسي الحكم. ولعل خير وصف لهذه المفارقة وصف المراقبين السياسيين آنذاك هذه الانتخابات بأنها انتخابات أنتجت صورة مقلوبة.

وكانت انتخابات 1958 قد شهدت تحالفات مختلفة، فقد خاضها الحزب الوطني الاتحادي متحالفاً مع قوى اليسار في الغالب، فيما تحالف حزب الأمة مع حزب الشعب الديمقراطي فنالت تلك الأحزاب: 62 مقعدا لحزب الأمة، 40 مقعدا للحزب الوطني الاتحادي، و26 مقعدا لحزب الشعب الديمقراطي. وشكلت إثر تلك الانتخابات حكومة ائتلاف بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي مرة أخرى.

لكن واجهت تلك الحكومة العديد من المشاكل وفاقمها عدم الانسجام بين طرفي الائتلاف وعدم المقدرة على تسيير دفة الحكم في ظل ائتلاف هش وعاجز. وبدأ التململ الشعبي باديا في المظاهرات وفي التذمر من الجميع بما في ذلك الحزبين الحاكمين.

وحسب الموقع الإلكتروني لحزب الأمة فقد تبنى رئيس الحزب حينها السيد الصديق المهدي رأياً مفاده أن الائتلاف الذي يناسب الحزب هو التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري. لكن السكرتير العام عبد الله خليل والذي كان حينها رئيساً للوزراء كان معارضا هذا الرأي.

غير أن حكومة عبد الله خليل واجهت خلافات مع مصر بسبب مشكلة الحدود في حلايب، وانهكت هذه الخلافات حكومة عبد الله خليل، وكادت أن تصل إلى مرحلة الاصطدام بين السودان ومصر من شكوى لمجلس الأمن إلى تحريك قوات سودانية إلى حلايب. وظلت مشكلة حلايب تراوح مكانها وتلقي بظلال سالبة على المشهد السياسي الداخلي.

وحسب موقع حزب الأمة الإلكتروني، فقد حدث أثناء مناقشة أزمة البلاد وموقف الحزب، أن  عرض عبد الله خليل السكرتير العام على أجهزة الحزب القيادية اقتراح تسليم السلطة لقيادة القوات المسلحة لتنقذ البلاد مما هي فيه من قلاقل، ولحماية سيادة البلاد ومنع أي اتجاه اتحادي محتمل مع مصر ورفضت أجهزة الحزب الاقتراح. ولكن رئيس الوزراء قدر أن المخاوف التي يراها ماثلة لا تحتمل التأخير، فاتصل باللواء إبراهيم عبود في قيادة القوات المسلحة وعرض عليه الأمر ثم سلم له السلطة في 17 نوفمبر  1958، على وعد بإعادة الحكم للمدنيين بعد إعادة الاستقرار للبلاد. وبعد أن حصل الانقلاب على مباركة السيد عبد الرحمن المهدي الفورية، وعلى تأييد السيد علي الميرغني، دخلت البلاد في مرحلة جديدة.

ولم يكن ما قام به الفريق إبراهيم عبود من استيلاء على السلطة انقلابا عسكريا، بقدر ما كانت عملية تسليم وتسلم بين ضباط 17 نوفمبر 1958 ورئيس الوزراء عبد الله خليل الذي أجبره الوضع السياسي على تلك الخطوة.

واقع الأمر أن هناك أسرار كثيرة جداً وراء انقلاب عبود لم يكشف النقاب عنها بعد، لكن شهادة مثيرة جداً قدمها اللواء الركن محمود عبد الرحمن الفكي في كتابه (القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث 1935 ـــ 1975) الصادر عن المطبعة العسكرية. وأهمية هذا الكتاب أن يقدم رصدا دقيقا لتاريخ القوات المسلحة السودانية خلال فترته ويحتوي على معلومات طازجة من شهود عيان دونت بالكتابة العسكرية التي تسرد الوقائع مباشرة ومحايدة، إضافة إلى أن هذا الكتاب يكمل جهدا لتاريخ الجيش السوداني بدأه والد المؤلف الأمير لاي عبد الرحمن الفكي بعنوان (قوات دفاع السودان).

جاء في الكتاب: كان البرلمان في عطلة وقد تقرر أن تبدأ  دورة انعقاده العادية صباح الإثنين 17 نوفمبر 1958، ولما شعر الأمير لاي (شرف) عبد الله خليل رئيس الوزراء ووزير الدفاع عن حزب الأمة الحاكم أن المعارضة بقيادة الحزب الوطني الاتحادي بزعامة السيد إسماعيل الأزهري سوف تسقط الحكومة يوافقه كل من السيد عبد الرحمن المهدي والسيد الصديق عبد الرحمن المهدي، قرر نقل السلطة إلى القوات المسلحة وهذه النصيحة قدمها له الامبراطور هيلاسلاسي قبل شهرين من اليوم الذي حدد، فيما بعد اتصل عبد الله خليل باللواء أحمد عبد الوهاب نائب القائد العام وعرض عليه فكرة استلام القوات المسلحة للسلطة وقد أبدى موافقته، ولكن طلب منه أن يعرض الأمر على الفريق إبراهيم عبود القائد العام للقوات المسلحة. ونقلا عن طريق السيد زين العابدين صالح وهو صديق شخصي للفريق إبراهيم عبود، ولكنه وعد بدراسة الموضوع. عرض الفريق إبراهيم عبود الفكرة على مستشاره القانوني الأمير لاي عبد الرحمن الفكي وهو أقرب العاملين إليه سنا في قيادة القوات المسلحة فوافق مع ذكر بعض التحفظات. كما استشار الفريق عبود عددا من المواطنين منهم السيد أحمد خير المحامي أول وزير خارجية والسيد يوسف العجب عضو برلماني والسيد عبد الرحمن عبدون والسيد إبراهيم أحمد وغيرهم.

وقضى عبود شهر أكتوبر كله في المشاورة والدراسة والتمحيص. وفي أول نوفمبر 1958 دعا القائد العام كل قادة الوحدات والأسلحة لاجتماع عام بالقيادة العامة للقوات المسلحة ذكر فيه أنه بعد الاستقلال لم تكن جميع الأحزاب السياسية على قدر المسؤولية، حيث كان الصراع والشقاق طابع العمل الحزبي والسياسي، كما أُثر سلبا على السياسة السودانية داخليا وخارجيا وعلينا في وزارة الدفاع. ومع هذا لم تتوفر لنا الرغبة في التدخل واستلام السلطة. وبعد النقاش قرر الاجتماع عدم التدخل والاكتفاء بمراقبة الوضع فقط. وبعد مرور خمسة أيام بالتحديد في الاجتماع الأول أي في نفس الأسبوع دعا الأمير لاي عبد الله خليل وزير الدفاع القادة لاجتماع عام ذكر فيه بالحرف الواحد (إن أحزاب الحكومة وقياداتها تريد من القادة العسكريين التدخل واستلام السلطة). وبما أن الطلب لم يكن مستغرباً عند البعض طلب القادة من السيد رئيس الوزراء أن يحدد لهم الأحزاب التي تدعو القوات المسلحة للتدخل واستلام السلطة، وما هو موقف أحزاب المعارضة؟ فذكر الأتي بالحرف الواحد: (البرلمان ستفتح دورته العادية يوم 17 نوفمبر وهناك مخطط يجري لشراء أصوات نواب من مختلف الأحزاب وعلى رأسهم نواب الوطني الاتحادي على وجه الخصوص، إضافة إلى نواب من حزب الأمة والجنوبيين وأن المخطط تم إعداده في دولة مجاورة بغرض إسقاط حكومة عبد الله خليل وإعلان حكومة جديدة تعلن في نفس اليوم من داخل البرلمان الدفاع المشترك والتمثيل الخارجي الموحد بين السودان وتلك الدولة المجاورة). وفي يوم 15 نوفمبر دعا السيد عبد الرحمن المهدي قادة القوات المسلحة إلى اجتماع وذكر بأنه فشل في حل المشاكل بالقنوات السياسية داخل الأحزاب المكونة للبرلمان، وأبلغهم موافقة السيد علي الميرغني وموافقته لاستلام القوات المسلحة للسلطة ولقد طلب منه القادة معرفة موافقة السيد إسماعيل الأزهري رئيس وزراء الحزب الوطني، وذكر أنهم سيتصلون به من أجل الموافقة. وعليه بدأ القادة للإعداد لعملية استلام السلطة ولم يكن أمامهم أكثر من 48 ساعة، فأعلنت حالة الطوارئ وقسمت الواجبات وفي يوم 16 نوفمبر أخطر الفريق إبراهيم عبود القائد العام واللواء أحمد عبد الوهاب نائب القائد العام السيد الأمير لاي عبد الله خليل وزير الدفاع في مكتبه بالقيادة العامة بأن القوات المسلحة سوف تستولي على الحكم صباح غد الاثنين 17 نوفمبر 1958م وقد دعا لهما وللقوات المسلحة بالتوفيق).

انتهت شهادة اللواء ركن محمود عبد الرحمن الفكي ويهمنا هنا الإشارة إلى هامش ورد في صفحة 58 من كتابه تفيد (هذه أسرار 17 نوفمبر كما رواها لي الوالد الأمير لاي عبد الرحمن الفكي).

وإضافة إلى أن هذه الشهادة تخوض في التفاصيل الدقيقة لملابسات ما حدث في 17 نوفمبر، يتعين أن علينا أن نوضح أمرين:

الأول: إن اللواء عبد الرحمن صغيرون قد قد أيد هذه الشهادة في لقاء صحفي نشرته صحيفة الإنقاذ الوطني في الصفحة الرابعة من عددها الصادر بتاريخ 21 أكتوبر 1991م.

الثاني: إن الامبراطور هيلاسلاسي قد حارب في شرق أفريقيا مع ضباط وجنود من قوة دفاع السودان كان من بينهم البكباشي عبد الله خليل واليوزباشي الحاج موسى واليوزباشي عبد الرازق خير السيد وغيرهم، ومن هنا نشأت العلاقة بين عبد الله خليل وهيلاسلاسي.

رغم أن نظام عبود كان فاتحة النظم العسكرية في البلاد، إلا أن الفترة التي أعقبت الاستقلال اتسمت بانعدام الرؤية لمشاكل البلاد وطرق حلها. كما أن انعدام التجربة الحقيقية في الحكم، أدى لسرعة انهيار النظام الديمقراطي وتقويضه لنفسه، لأنه أيضا لم تكن للأحزاب حينها تجربة في حكم عسكري سوداني من قبل، وجاز للبعض بذلك أن يتوسم في الجيش الخلاص.

وهكذا عاد الزعيم إسماعيل الأزهري إلى سيرة النضال القديم، ويبدو أن القدر لم يتركه ليكتفي بمجابهة المستعمر ومناهضة القوى التقليدية والإقليمية، إذ أنه انخرط في مقاومة شديدة للنظام العسكري الشمولي، قادته إلى سجون الجنوب منفيا مع زعماء الحركة الوطنية كان من بينهم الأستاذان: محمد أحمد محجوب وعبد الخالق محجوب.

وتبقى كلمة في حق السيد عبد الله خليل نلتقطها من كتاب الأستاذ يحيى محمد عبد القادر (على هامش الأحداث في السودان) ونصها (إن عبد الله خليل رجل نادر بين الرجال وقد أعطى كل ما في وسعه وكل ما عنده. وكان مثالا للطيبة والوطنية وروح الخير لا أشك في ذلك بل أخالني دون ما أريد).

المراجع

اللواء محمود عبد  الرحمن الفكي (القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث 1935 ـــ 1975) الصادر عن المطبعة العسكرية.

صحيفة الإنقاذ الوطني ـ الصفحة الرابعة بتاريخ 21 أكتوبر1991

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى