العرب والسودان: غياب التضامن أم حضور الاستعلاء؟

د. إسماعيل ساتي
في كل مرة يشتد فيها الجرح السوداني، ينتظر السودانيون ولو بادرة تضامن صادق من أشقائهم العرب، توازي عمق الجراح، أو ترد شيئاً من وفاء التاريخ. لكن ما يصلهم غالباً ليس إلا بيانات إنشائية، أو مبادرات باردة، لا تلامس جوهر المأساة.
فهل هو مجرد عجز سياسي؟ أم أن خلف هذا الفتور تقف نظرة استعلائية متجذرة تجعل السودان دائماً في هامش الأولويات العربية، مهما اشتدت نكبته؟
لسنا بصدد تكرار التساؤلات المعتادة التي تثار في كل مرة يدلي فيها مسؤول عربي بتصريح حول ما يجري في السودان، سواء كان مؤيداً للدولة السودانية أو معارضاً لها؛ إذ لا تكاد تختلف مضامين هذه التصريحات كثيراً: بعضها يشير تلميحاً إلى دعم السودان ومؤسساته “الشرعية” دون ان يصرح أن جيش البلاد هو من هذه المؤسسات، وبعضها يكتفي بالتعبير عن القلق الإنساني ويقترح تقديم معونات غذائية أو طبية لشعب مسكين يُعاني من الجوع والمرض، وبعضها الآخر (وهو الأسوأ) يطالب أطراف النزاع بالجلوس معاً على طاولة الحوار على قدم المساواة، رافضاً الاعتراف بأن الأزمة أساسها فصيل عسكري كان قد تمرد على الدولة.
وهو ما يقودنا في هذا السياق إلى مؤتمر القمة العربي الرابع والثلاثين الذي انطلقت مداولاته اليوم في بغداد، لن نخوض في دلالات الغياب الصارخ للأزمة السودانية من خطاب ممثل ملك البحرين في افتتاح المؤتمر، مع العلم ان بلاده هي التي تولت رئاسة الدورة السابقة. ولن نخوض في السهو أو التجاهل – المقصود أو غير المقصود – حين أعلن رئيس وزراء العراق “محمد شياع السوداني” عن تأسيس صندوق لإعادة إعمار الدول العربية المتأثرة بالحروب، متعهّداً بتقديم عشرين مليون دولار لغزة ومثلها للبنان، دون أن يأتي على ذكر السودان، وكأن هذا البلد قد أُسقط عمداً من الخريطة السياسية والوجدانية للعالم العربي.
نحن لا نتوقف عند كل هذه المؤشرات بحد ذاتها، بل ننطلق منها لطرح سؤال أعمق وأكثر إلحاحاً:
هل ما زال العرب، نخباً وحكومات، ينظرون إلى السودان نظرة استعلائية تجعله في ذيل أولوياتهم واهتماماتهم؟
*الإعلام العربي: بين الغياب والسطحية*
إن نظرة الاستعلاء لا تقتصر على الخطاب السياسي الرسمي، بل تجد لها صدى واضحاً في الإعلام العربي، الذي كثيراً ما يتعامل مع السودان من منطلق “الخبر الهامشي الذي يتذيل أولويات الاخبار” باستثناء الأخبار المرتبطة بالكوارث، أو التقارير التي تفتقر للعمق والتحليل. نادراً ما يُعرض السودان كدولة ذات تاريخ وإرث ثقافي وحضاري غني، أو يُناقش واقعه السياسي والاقتصادي ضمن سياقه الجغرافي والإقليمي والداخلي وانتمائه العربي والأفريقي.
تغيب التغطية الجادة والمنصفة، ويحل محلها التبسيط المخل أو الإهمال المتكرر، وكأن الإعلام العربي يعكس، بوعي أو دون وعي، صورة السودان كـ”هامش” لا كفاعل. بل إن كثيراً من التغطيات تسقط في فخ التناول الفوقي، إما بالتحدث عن السودان وكأنه أرض بلا شعب، أو بتقديمه كـ”ضحية دائمة” محتاجة لرحمة الآخرين، دون الاعتراف بكرامة أهله أو بصمودهم في وجه الأزمات.
لكن، وعلى الضفة الأخرى، لا يبدو أن الشعوب العربية تشارك هذا الخطاب. ففي الأوساط الشعبية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تتجلى مظاهر التعاطف الإنساني والتقدير الثقافي للسودان وأهله. كثير من العرب العاديين يرون في السودان بلداً شقيقاً له مكانته وتاريخه، ويعبّرون بصدق عن حزنهم لما آلت إليه أوضاعه، دون استعلاء أو وصاية.
وهذا التباين بين موقف الشعوب وخطاب بعض المؤسسات الرسمية والإعلامية، يسلّط الضوء على خلل أعمق في طريقة تناول الشأن السوداني داخل النظام العربي، ويثير تساؤلات حول من يُشكّل الصورة النمطية ولماذا.
*السودان… شريك لا تابع*
لقد ظل السودان، منذ استقلاله، من أكثر الدول التزاماً بالقضايا العربية، سياسياً وعسكرياً وثقافياً. شارك بجنوده في حروب المصير المشترك، واحتضنت أرضه قمماً عربية، وفتح حدوده ومواقفه لمساندة قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لم يتأخر عن نداء العروبة، بل جعل من التضامن العربي أحد ركائز سياساته الخارجية.
لكن مقابل هذا الالتزام الصادق، ظل السودان يواجه شكلاً من أشكال التهميش المتكرر من قبل الأنظمة العربية والنخب السياسية المؤثرة في القرار الإقليمي. تارة بتجاهل أزماته الكبرى، وتارة بحصر حضوره في الأدوار الرمزية أو الطارئة، وتارة أخرى بتعمد إقصائه من مشاريع الدعم والتكامل والتضامن.
هذا التناقض بين ما يقدمه السودان وما يتلقاه في المقابل يطرح سؤالاً جاداً ومشروعاً:
أما آن للسودان أن يعيد النظر في طبيعة انتمائه العربي، وفي جدوى عضويته في منظومة يبدو أن مكانته فيها لا تُقاس بما يقدّمه، بل بما يُفرض عليه؟
إن لحظة المراجعة قد تكون ضرورية، ليس انكفاءً عن العروبة، بل استعادة للكرامة والندية، وتصحيحاً لعلاقة ظلت، لعقود، تميل لكفّة دون أخرى.
*ختام… لا بد منه*
لقد آن الأوان، ليس فقط للسودان أن يعيد النظر في موقعه داخل المنظومة العربية، بل للعالم العربي كله أن يراجع رؤيته تجاه السودان، شعباً ودولة. فما يتعرض له السودان اليوم من حرب طاحنة غير مسبوقة تهدد وحوده، ونزيف إنساني ومأساة شاملة، هو امتحان حقيقي لمبادئ “الأخوة” و”الوحدة” التي طالما تغنّى بها الخطاب العربي الرسمي.
إن الاستمرار في التعامل مع السودان كدولة هامشية أو كحالة إنسانية دائمة، لا يليق بمكانته التاريخية ولا بما قدّمه من مواقف مشرفة في مسيرة العمل العربي المشترك. وإذا لم يكن هذا الوقت، بكل ما فيه من نكبات وأهوال، كافياً لإعادة السودان إلى قلب الاهتمام العربي، فمتى يكون ذلك؟
ولعل السؤال الذي ينبغي أن يُطرح بصراحة هو:
لو أن دولة عربية محورية، ذات وزن سياسي أو اقتصادي، شهدت تمرداً عسكرياً من فصيل داخل جيشها القومي، هل كان الموقف العربي الرسمي سيقف منها نفس هذا الموقف “المتوازن” الذي لا يجرؤ حتى على تسمية المعتدي باسمه؟
أم أننا كنا سنرى بيانات إدانة سريعة ومؤتمرات طارئة وتضامناً واسعاً مع “الشرعية” و”وحدة الدولة”، كما يحدث في حالات أخرى أقل خطراً من كارثة السودان؟
إن العلاقة بين السودان والعالم العربي لا يمكن أن تستمر على هذا النحو:
علاقة من طرف واحد يعطي بلا مقابل، ويُطلب منه الوفاء دون اعتراف.
فإما أن تُبنى العلاقة على الندية والاحترام المتبادل، أو أن يكون للسودان الحق الكامل في أن يسلك طريقاً يليق بتاريخه ويصون كرامته، حتى لو كان ذلك خارج عباءة لم توفر له دفئاً حين اشتدت عليه العواصف من كل جانب.