رأي

المدينة الكاذبة

عبد القادر دقاش

أطلق محمد حسين هيكل على أم درمان – عندما زارها في مطلع العشرينيات من القرن الماضي – اسم (عاصمة الدراويش)، وما لا يعلمه هيكل أن المهدي عليه السلام لم يطمح في أن تكون هذه البقعة الخلاء عاصمة له، بل كان طموحه أرض الشام، فقد قال للأنصار: إن صاحب الحضرة النبوية قال له، إن عاصمتك في الشام، وبالطبع ستكون دمشق التي يرى جمالها على صفحة نهر بردى، وإن تعداها فإلى العراق حيث مدينة المنصور دار السلام.

لكن الأقدار شاءت أن يموت المهدي ويتخذ الخليفة من بقعة المهدي موطناُ مؤقتاً يعد منه الجيوش لغزو العالم الذي لا يؤمن بالله ولا بالمهدي.

لذلك لا غرابة أن تعبّر بعض أسماء أحيائها القديمة بأزقتها الخانقة عن ذلك الغرض أو عن ما اقتضه تلك المرحلة مثل، *العرضة* التي كانت تعرض فيها جيوش المهدي. و *الملازمين* وهم قوة خاصة بالحماية يقودها عثمان شيخ الدين و *بيت الأمانة* الذي يقطنه الخليفة (مؤقتا) إلى أن يبلغ القصور التي تمرق فيها بنو أمية، و *بيت المال* الذي كانت تسك فيه عملة المهدية والتي كان حالها كحال الجنيه اليوم فقد كانت تدعى “مقبولة” وقد قلل عبد الله ود عدلان وزير المالية وقتذاك مادة الفضة المكونة لهذه العملة حتى أصبحت مجرد طلاء، لذلك لم تتغن البنات بتلك العملة لأنها ليست لها قيمة ولكن غنين للريال المجيدي (التركي المصري): ختاته ختي زيدي/ بكريك بمجيدي/ شوفي لي حبيبي/ في البلد البعيدي. وجاءت بعض الأسماء الأخرى من الأحياء التي وزعت بين الخليفة جنوبا وآل المهدي من الأشراف شمالا وعلي ود حلو، على أسماء ساكنيها، وأسماء بعض القواد، ومن بينها حي نحت اسمه على اسم أكبر تاجر نخاسة في تاريخ البشرية..إضافة إلى حي *الموردة* التي ينبيك اسمها عن ماهيتها و *حي العرب* وهو منفى للأعراب الذين كانوا قطاعاً للطريق، وإلى جانبه *المسلمانية* من اليهود والنصارى الذين وضعهم الخليفة بعيداً عن مسجده الشريف ووضع على رأسهم رجلاً منهم يهتم بشؤونهم ويجبي جزيتهم.

لكن الثقافة الزائفة جاءت لتسمى الأشياء بغير ما عرفت به فسموا الأرض الخراب بالعاصمة الوطنية في مقابل الخرطوم عاصمة الأتراك والأنجليز التي كانت منظمة ونظيفة تحفها الأشجار والأنهار..وجاءت فيما بعد لتكون مهوى أفئدة الشعراء المجيدين المتأخرين الذين مزجوا بين أكثر من ثقافة، لا سمكرجية الشعر الذي يعرف بشعر الحقيبة والذي فرض على مدى عقود على أذواق السودانيين باعتباره الأرث الموروث والحقيقة الخالدة، قبل أن ترهف الأذان إلى الأغاني الحكائية الرائعة من أغنيات الشايقية التي تجري في القلب مجرى الدم من العروق: تعال ياطيف كتير مشتاق تعود شايل حكاويها، تعال حدثني عن عينيها وين بعدت مراسيها..أو أغاني البقارة في كردفان التي يهز جرسها الوجدان أو أغاني الحماسة عند الجعليين أو ايقاعات البالمبو ذات الألحان الشجية أو رطانة أقاصي الشمال مع أوتار الربابة واهتزازات أوتار الشرق والكرنق في جبال النوبة والتي كل ما فيها جميل وعميق. لتدرك بعد ذلك إن ما كتب ولحن وتغني به في أم درمان أو عن أم درمان ما هو إلا الطلاء الفضي الذي طليت به (مقبولة).

وعندما قال عبد الله حمدنا الله النازل من اللعوته إن أم درمان ليست جميلة ولكنها جليلة غضب مثقفو أم درمان وثار صحافيوها وهكذا كانوا يفعلون منذ كتابة هيكل ذلك في الأهرام فهم مكابرون ويحبون مدينة لم تخلق للحب..ولا يدرون أن الحب الذي يدرك بالشعور، يرى بالعين أيضاً ويقاس بالعقل المجرد..فأين كل ذلك من أم درمان. وجاء محمد الواثق وكتب: لا حبذا أنت يا أم درمان من بلد/ أمطرتني نكدا لا جادك المطر. من صحن مسجدها حتى مشارفها/ حط الخمول بها واستحكم الضجر. ونصح قوم أم درمان أن يتخلوا عن تمجيد هذه المدينة البائسة التي جرت البؤس والخراب على كل مدن السودان الأخرى..وخدع الناس بها فجاءها أهل الشمال فكونوا الثورات وجاء أهل الغرب فكونوا أمبدات وجاء الناس من الجزيرة ومن كل مكان كان ينعم بالخضرة والماء والوجه الحسن جاءوا إلى المقبرة وتراصت أكوام الطين في كل أتجاه ليعيشوا في مدينة التراب والسراب.. لأن المخادعين قالوا لهم: هنا أم درمان..هنا السودان.. فجاءوا لكنهم لم يجدوها شيئاً.. وقال محمد الواثق أصدق من كتب عن أم درمان: يا ريح عاد تحري أين موقعها..وصبي عليها حمم البراكين.

فماذا وجد أهل الجروف والسواقي والحواشات والمزارع والمراعي في أم درمان.. لم يجدوا غير المدينة الكاذبة والفجر الكاذب و (الموز) الكاذب! فيا من تظنون أنكم أتيتم من الهامش، أم درمان هي الهامش لو كنتم تعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى