رأي

الوعي الذي نريد: قراءة في مفهوم الوعي المعياري الأخلاقي

د. أحمد عبد الباقي

الوعي في قواميس اللغة العربية يعني الحفظ والفهم، فيقال وَعَيْتُ العِلْمَ أعِيهِ وَعيًا، ووعَى الشيء والحديث يَعِيه أي حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ. وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ، ولمفهوم الوعي دلالات عديدة يتجلى أهمها من خلال علم النفس وعلم الاجتماع، كما أن للوعي عدة أنواع منها: العفوي، التأملي، الحدسي والمعياري الأخلاقي وهذا هو الأخير الذي نريده ليتحلى به للمجتمع السوداني.

يشير مصطلح “الوعي” في علم النفس أولًا إلى حالة اليقظة العادية، ويشير ثانيًا إلى قدرة الإنسان المتميزة الخاصة على الشعور بذاته، وتمايز ذاته عن الآخرين وعن الأشياء والكائنات الأخرى، بينما أبان علم الاجتماع بأن الوعي هو الحالة العقليّة التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال وتفاعل الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه، واحتكاكه به ممّا سيسهم في خلق حالة من الإحاطة لديه بالأمور كلها التي تجري وتحدث من حوله، فيصبح أكثر قدرة على إجراء المقاربات والمقارنات من منظوره هو، وبالتالي سيصبح أكثر قدرةً على اتّخاذ الحكم والقرارات التي تخص المجالات والقضايا المختلفة التي تطرأ له، ومن غير هذا الوعي يأتي الحكم واتخاذ القرارات حول ما يعِن له من قضايا مشوهاً مختلاً لعدم إدراك الشخص لما يدور حوله بصورة كاملة وعندها يصبح الوعي منقوصاً يقعد بصاحبه عن أداء دوره في بناء مجتمعه، بل ربما يؤدي دوراً هدّاماً دون أن يحس بذلك.

يتبلور الوعي من خلال الرصيد الفكري الذي ينطوي عليه عقل الإنسان، مضافاً إليها وجهات النظر المختلفة الموجودة في هذا العقل، والتي تتعلّق بالمفاهيم المختلفة مثل القضايا الحياتيّة والمعيشيّة والاجتماعية والسياسية والثقافية، ولهذا عدة أنواع، منها: الوعي “العفوي” (التلقائي)، وهو ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساساُ لاتخاذ نشاط معين، دون أن يتطلب ذلك منا مجهودًا ذهنيًا كبيرًا، بحيث لا يمنعنا من مزاولة أنشطة ذهنية أخرى، أما الوعي “التأملي” فهو على عكس الأول يتطلب حضورًا ذهنيًا قويًا، ويرتكز على قدرات عقلية عليا، كالذكاء، والإدراك، والذاكرة. وبالتالي فإنه يمنعنا من أن نزاول أي نشاط آخر. كما أن هنالك الوعي “الحدسي”، وهو الوعي المباشر والفجائي الذي يجعلنا ندرك أشياء، أو علاقات، أو معرفة، دون أن نكون قادرين على الإتيان بأي استدلال فهو بمنزلة الإلهام. وأخيرًا وأهم أنوع الوعي هو، الوعي *”المعياري الأخلاقي”*، وهو الذي يجعلنا نُصدر أحكاماً قِيّمية على الأشياء والسلوكيات، فنرفضها أو نقبلها، بناء على قناعات أخلاقية مبنية على ثوابت الدين والمجتمع، غير متأثرة بالمؤثرات والمتغيرات السلبية مهما قويت. وغالبًا ما يرتبط هذا الوعي بمدى شعورنا بالمسؤولية تجاه أنفسنا والآخرين أو المجتمع ككل.

يبدو أننا في المجتمع السوداني نحتاج بصورة أكبر للتحلي بالوعي المعياري الأخلاقي الذي يميز، بين ما هو معياري وما هو غير معياري، الجرائم كلها التي يرتكبها التمرد – في حربه ضد الشعب كله – مثل اغتصاب العرض والمال بكل أنواعه (ذهب، نقود، عقارات، مكاتب شركات)، السرقة، النهب القتل، جرائم وتدمير البُني التحتية لا يجيزها العقل أو الشرع أو العرف أو الدين أو الثقافة القويمة (وإن كان ذلك نسبيا)؛ وبالتالي لا ينبغي أن تكون محل تأويلات أو مبررات أو اختلاف حول قبولها وشرها مهما كان شكلها أو من أتى بها، أو ارتكبها أو دعمها.

ينبغي ألا نخلط بين ما هو معياري أخلاقي وما هو سياسي، فالأول كما ذكرنا لا خلاف حول تجريمه ورفضه مهما كانت مبرراته، بينما الثاني تقديري تختلف حوله التقديرات ووجهات النظر، ويحتمل التأويل والتحليل، وفي هذا ينبغي أن نعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا حوله دون المساس بمقومات الدولة وحرمة الوطن، يمكن أن ندير حواراُ هادئاً حول القضايا التقديرية بغية التوصل إلى نتائج تثري الحياة؛ لأن اختلاف البشر من طباعهم الجِبلية والفطرية، وينبغي أن يكون اختلاف وجهات النظر حول القضايا التقديرية محل احترام وتقدير الجميع، ومثل هذا المسلك ظاهرة صحية مطلوبة لبناء المجتمع وصون وحدته، بينما التعصب وإلغاء الآخر ظاهرة غير صحية تفتك بعضد المجتمع، فينبغي محاربتها والوقوف ضدها لينعم المجتمع بالسلم الاجتماعي ولتنعم الأجيال المقبلة بحياة أفضل مما عاشه ويعيشه الآباء حاليا وحتى لا تتكرر دورة الشقاء التي عاشها المجتمع السوداني منذ نشأة السودان الدولة القطرية في القرن التاسع عشر وما زال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى