رأي

حياكة الأسماء في غزْل النساء!

الدكتور الخضر هارون

مدام ديفارج في رواية شارلس ديكنز ” قصة مدينتين” التي تحكي قصة الثورة الفرنسية قضت جل وقتها في حانة يملكها زوجها قرب سجن الباستيل الرهيب في حياكة منسوجات.

إلي هنا يبدو الأمر عاديا حتي اليوم لدي الأوروبيات ميسورات الحال اللائي لم تدفعهن الظروف لسوق العمل فهن يزجين الفراغ ويقتلن الوقت في حياكة الشالات أو المعاطف. وذلك صنيع لا يسترعي انتباه أحد. لكن مدام ديفارج لم تكن تزجي بالحياكة فراغا أو تقتل وقتاً وإنما كانت تدون بخيط الغزل أسماء رموز الطبقة البرجوازية الحاكمة والنبلاء حاشية الملك الذين كانوا يرتادون الحانة فقد كانت حانقة علي الطبقة البرجوازية في فرنسا برمتها ،مؤيدة للثورة عليها واثقة من انفجارها بل وانتصارها وفوق ذلك كانت مشحونة بمواجد علي البرجوازيين تحملهم جريرة العوز والمسغبة التي يعاني منها بسطاء الناس بل والمهانة والزراية التي كانوا يلقونها منهم، فقد كانت تطالع بأسي يومياً بعضهم يغرف بيديه أو بشفتيه المسكوب من نبيذ الحانة المتبقي في كؤوس البرجوازيين من علية القوم من شدة الجوع وهي تطرح في الشارع العام علي الأرض القذرة المتسخة يومئذ أو التي تأخذ طريقها متسربة إليه . وقد رأت بأم عينيها طفلة يافعة تدهسها عربة واحد من أولئك المترفين تجرها الخيل وعوضاً عن الشعور بالذنب علي إزهاق روح تلك الطفلة المسكينة، استشاط السيد المبجل بداخلها غضبا لاعتراض الصغيرة التي فارقت الحياة ،طريق العربة ورمي لذويها عبر النافذة قطعا من النقود المعدنية وهو يتمتم ( أيها الأغبياء كيف تدعون صغاركم يجوبون الشوارع هكذا )! بدا وكأنه قد دهس قطة او سنجابا. وملأ الغيظ والحزن أبو الصغيرة فقذف العربة المسرعة بتلك القطع النقدية التي لا تساوي شيئا وهو يصب لعنات العاجز علي من بداخلها.

إذن لم تكن مدام فيراج تغزل وتحيك استثمارا للوقت فيما يفيد أو تطرز بيديها منديلا أو شالا لحبيب بعيد، لكنها كانت تسجل بغضب أسماء كل أولئك المرفهين، الطيب منهم والخبيث بخيوط الغزل والحياكة تنتظر يوما يجئ للإنتقام تجعل من نسيجها سجلاً حاملا لقوائم سوداء من الأثرياء والنبلاء بتلك الطريقة المبتكرة التي لم تكن لتثير شكوك الشرطة السرية التي كانت تسترق السمع وتحصي الأنفاس للمعارضين لتقذف بهم في قاع الباستيل ذلك السجن سئ السمعة حيث يقضون بقية حيواتهم بين جدرانه وأقبيته المظلمة الرطبة.

وبالقطع بين أولئك المترفون خيرون لا ذنب لهم بل وبينهم متعاطفون مع الفقراء حانقون علي ميل ميزان العدل والإنصاف كما هو الحال عبر التأريخ الإنساني فالشر إن أطل برأسه عم ومن أمثال أولئك بطل الرواية نفسه شارلي دارني الذي تخلي عن ميراثه من الثروة بل ترك فرنسا كلها ليعيش في لندن .تقول الرواية إنه لما انتصرت الثورة بدت مدام ديفارج منتشية متعطشة للدماء والإنتقام لا تميز بين برئ ومذنب . كانت تحز الرؤوس بمدي في يديها قبل أن تهتدي الثورة الجامحة إلي المقصلة المرعبة التي حزت من أعناق أبناء الثورة خلال أربع سنوات أكثر مما فعلت بالبرجوازيين!

*أربع سنوات؟!*
ما بال هذا الرقم أربعة يلازمنا بما لا نحب بل ويلزمنا بما لا نريد ؟ ضرب من النحس يفسد أحلام الإنتقال كل مرة من نظام إلي نظام إلي البر الآمن وفردوس الاستقرار المنشود؟ تمضي بنا أربعا من ديمقراطية تكثر فيها الفوضي العارمة والخطابة والشعر الحماسي ويتناقص العمل وتتآكل البني التحتية : الطرق وسبل النقل والاتصال ومحطات الكهرباء والمياه ونخشى من جراء ذلك أن تدهسنا الخيل من خارج الحدود بحوافرها . كيف لا وهذه البلاد التي تبدو عجفاء جرداء تحمل في جوفها وفوق سطحها من نفائس الثروات وما هو أثمن من الثروات المجتمعة ، إنساناً كان من صانعي الحضارات ولم يزل يشع بالضؤ الساطع مبدد الظلمات علي جواره القريب والبعيد ؟! ثم نحِن إلي حكم العسكر نلتمس النظام والانضباط ووقف التدهور والإنزلاق ! وبذلك نخطئ الهدف بخطيئة أخري نصنعها بأن ما ينقصنا هو الانضباط وحده وننسي أنه كإمساك الوحش من أذنيه وأننا حال ما فككنا ، انقض علينا وأن النظام ليس مطلوبا لذاته بل هو مطية للاستقرار ولإتقان عمل البناء . ويطول الانتظار للمبتغي فلا يتحقق فالعسكر كالمدنيين قد راقت لهم السلطة فاستعانوا علي إبقائها بين أيديهم بخداع النفس بالظن السئ بأننا معاشر الأشقياء والبسطاء نعشق النجوم المتلألئة علي أكتافهم أو نقنع بمجرد الانضباط ومظاهر هيبة السلطان بديلا عن التنمية والنماء. والعسكر والمدنيون سواء فيهم أخيار وأشرار والعبرة ليست في الأشخاص ولا في أزيائهم بل في النظم . نظم يختارها الناس تمارس فيها الشفافية فتبدو فيها الأشياء هي الأشياء ونظم مغلقة يلفها الظلام سرها في بطونها كما نقول لا فرق في أن يكون علي رأسها متسربل في بزة عسكرية أو في بدلة داكنة اللون ورابطة عنق متعددة الألوان فهتلر لم يكن عسكريا ولا حتي صدام حسين !

فالمظهر لا يغني عن اللباب والجوهر ننفض فقد تمرسنا في الانتفاض فنفاجئ العسكر بالثورة عليهم فنسقطهم كسابقيهم فرحين مستبشرين معبرين عن ذلك بالأشعار والأناشيد الحماسيّة ونلقي بأنفسنا مجددا في خضم المجهول ! فنحن مذ ذهب نظام الإنقاذ تجدنا من فرط شقائنا وقلة حيلتنا قد تجاوزنا رقمنا الرابع الأثير إلي الخامس دون أن نري ضوءا في نهاية النفق المظلم بل رأينا نفقاً مختلفاً هذه المرة يكاد يستأصل شأفتنا ألي الأبد! ظننا أن داءنا وخيباتنا سببها الإنتقال لا العجز عن إعمال النظر كل مرة وإكمال المشورة فيما بعد الإنتقال فجئنا بالأمم المتحدة وهي منظمة وصفتها مادلين أولبرايت بأنها ليست سوي أداة للخارجية الأمريكية وقال جون بولتون ممثل أمريكا فيها : فيم ال 39 طابقاً التي خصصت لمقرها؟ عشر طبقات كافية لملء شعثها المتناثر الذي لا فائدة ترجو منه أيضاً علي أية حال ؟

أرسلت تلك المنظمة موظفاً فشل في إنقاذ سوريا فجاء ليضيف فصلاً جديداً لرصيده من ذلك الفشل. تري هل جئنا بهم حقاً نحن وبغيرهم من العرب وغير العرب؟

الحق أن جاءت بهم قلة قليلة من الناشطين الذين استوزروا بغير تفويض من الشعب ولظن فطير منهم أن عثراتنا السابقات سببها التراث والقيم الحاكمة للمجتمع و أنها السبب في عدم استدامة الديمقراطية عندنا وعدم فاعليتها وأن القطيعة مع جملة ذلك التراث ،سيجعلنا في مصاف الدول التي جازت الفضاء وصنعت الحاسوب والسيارة والطيارة! لم يتساءلوا كم دولة في المستعمرات السابقة قد بلغت ذلك الشأو من الرقي بل كم منها مكتفية اليوم بما تنتج من الغذاء والدواء والكساء رغم كونها تدار من المستعمر السابق بمهماز من علي البعد تفعل كل قطعة من ( الحداثة) يريدون ومع ذلك يبقي الحال المائل البائس أكثر سوءا مما كان عليه بزيادة الأفواه الجائعة لتبقي الحاجة دائمة لا فكاك منها ومعها التبعية! ولئن كان مثل هذا التجريب عقيم كما قلنا وكما نري ما يؤيده من إخفاقات وقلاقل وحروبات في أكثر من بلد من البلاد التي كانت ضحايا للاستعمار ؟ أو ليس من خطل الرأي وفساد التدبير أن يُضحي بأمن الوطن بل بوجوده من أجل نفع قد يقع وقد لا يقع؟ أليس ذلك شبيه بمن يسكب ما أعده من ماء يستعين به اجتياز الصحراء مفتوناً بانهار السراب التي تتراقص في عينيه؟!

والسواد الأعظم من السودانيين يريدون الحداثة بل ويعيشونها ولكن ( بتصرف) لا يحمل شوائب ونقائص الحضارة الأوروبية ويحرص ألا يؤدي النقل الأعمي إلي إضافة سوءاتهم إلي سوءاتنا بل و إزالة خصائصنا الخيرة المميزة لنا بين الأمم. وهل يستحيل أن يحدث التقدم والأخذ بناصية العلوم ببصمة سودانية مميزة في حضارة معاصرة أسهمنا في صنعها كما فعلت حضارات أخري؟

وآخيبة الرجاء فيمن جاءوا بهم لإصلاح الحال ولما جاءوا به ذلك الإطاري مجهول الأب الذي أدي لوقوع الحرب الضروس التي تبعثرنا اليوم في كل واد وتكاد تمحو السودان من علي ظهر البسيطة! نافخوا كيرها بعض أبنائها وجيران وبعض من حسبناهم أشقاء يسارعون لنجدتنا عند الحاجة فإذا بهم مخالب سباع ضارية تأكل أشبالها إن لسعها الجوع أو لم يفعل ! والغريب أنها عوضا عن الجوع ترفل في خيلاء الشبع والترف.

تري هل بين حرائرنا من تحسن الحياكة مثل مدام ديفارج لتحصي كل أولئك الخونة أحفاد ابن العلقمي الذي كان دالة التتار ودليلهم إلي بغداد عاصمة الدنيا والمعارف في ذلك الزمان ليذبحوا أهلها ذبح الشياه ويحرقوا مكتباتها حتي كلل مداد كتبها مياه دجلة بالسواد كما يفعل حفدة أولئك بنا اليوم ؟

لقد وفر الله علي الحائكات جهد الغزل وجهد التحسب لعيون الرقيب فجعل الرصد والتوثيق في عصر الصناعة بالصوت والصورة تحمل الحركات والسكنات وبشاعة أصوات السفلة المجرمين المجاهرين بالساقط من القول وهم يتوعدون الآمنين بالويل والثبور وعظائم الأمور.
ستشرق شمس ذلك اليوم والظن بالسمر الجعاد أن يستعصموا بما ورثوا من اخلاق الفروسية والرجولة الحقة التي لا تستأسد علي العزل، فلا يأخذون بريئا بجريرة مجرم ولا يلغون كما فعلت مدام ديفارج في الدماء والأعراض والحرمات بل يسترد الوطن عافيته وألقه بسوط القانون وقسطاس العدالة الذي لا يعرف الحيف والميل حتي في نشوة الانتصار. سينكشف الكثير من المستور اليوم يومئذ وكما تنبأ طرفة بن العبد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتا ولم تضرب له وقت موعد!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى