رأي

ذريعة التدخل الدولي الإنساني والهيمنة على الدول: جدلية التدخل وسيادة الدول (2-3)

د. أحمد عبد الباقي

تغيرت طبيعة الصراعات في العالم بعد الحرب الباردة حيث ازدادت نسبة الصراعات الداخلية والحروب غير الدولية؛ مما أوجد نوعا من الاضطرابات تمثلت في عدم الاستقرار السياسي والفراغ الأمني في عدد من دول المعسكر الشرقي خاصة أوربا الشرقية، وبعض دول آسيا الوسطى، ودول إفريقيا، وتأثر نتيجة لتلك الاضطرابات المدنيين، فوقعت حالات تطهير عرقي وانتهاكات لحقوق الإنسان ومشاكل الجوع الخ…، استغل الغرب تلك الظروف، ووظف آليات جديدة لإدارة صراع ما بعد الحرب الباردة، وروج لمبدأ التدخل الدولي الإنساني تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان والغوث الإنساني، إلا أن هذا التدخل فُسر تفسيرا سياسيا بحتا لتتحكم فيه مصالح الدول الغربية بقيادة أمريكا، وَاِتَّخَذَ ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول والمساس بسيادتها والضغط على الحكومات من أجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لصالح الغرب وأمريكا، وتحول التدخل الدولي الإنساني من الزعم بأنه لخدمة الإنسانية وإشاعة مفاهيم السلام وقيم الديمقراطية إلى أدوات للضغط والإكراه بالتعدي على سيادة الدول والانتقاص منها.

التدخل الدولي الإنساني وتأثيره في سيادة الدول

وفقا للقاموس العملي للقانون الإنساني أن مفهوم “التدخل” في القانون الدولي يعني “التعرض” وعندما تتدخل دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، فإن ذلك يعد انتهاكا لسيادة الأخيرة، رغم أن ميثاق الأمم المتحدة (المادة 2-7) يقر مبدأ عدم التدخل الذي ينصّ على عدم جواز “تدخل الدول في قضايا تقع أساسًا ضمن إطار الاختصاص المحلي لأي دولة”، وجاء أيضا في المادة 2 الفقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة ” يجب على الدول الإحجام عن استعمال القوة أو التهديد باستعمالها بطريقة تتعارض مع أهداف الأمم المتحدة ضد الوحدة الوطنية والاستقلال السياسي للدول الأخرى. كما حظرت محكمة العدل الدولية التدخل بصنفيه المباشر وغير المباشر، وحظرت استعمال القوة المباشر ضد دولة أخرى، أو دعم دولة للعصابات المسلحة أو المتمردين في دولة أخرى بهدف قلب نظامها السياسي. وحظر أيضا إعلان الأمم المتحدة لعام 1970 كل تدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة، واعتبر كل شكل من أشكال التدخل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي مخالفًا للقانون الدولي، وأكّد أن لكل دولة حقًا ثابتًا في اختيار النظام الذي يلائمها من دون أي تدخل خارجي. وعلى ذات النهج سارت مواثيق المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي ومنظمة الدول الأمريكية واللجان القانونية الدولية والاجتهاد الدولي في السوابق القضائية والقانونية الدولية.

أثار التدخل الدولي الإنساني (انظر المقالة الأولى) عددا من الإشكاليات النظرية والعملية في ميدان الدراسات الدولية السياسية والقانونية لمساسه بمفهوم سيادة الدول التي تعد أهم أركان وركائــــز النظام الدولي وحمايته من الفوضى والمتمثل أساسا في مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، وعليه انقسمت المواقف النظرية والقانونية ما بين اتجاه مؤيد ورافض لمبدأ التدخل الإنساني، فيري المؤيدون لنظرية التدخل الإنساني ضرورة وضع الحق في الحياة والسلامة الجسدية في مقدمات الحقوق التي تستوجب التدخل الإنساني في الشؤون الداخلية ضد الدولة التي تقوم بهذه الخروقات، وذلك انطلاقا من إقرار المواثيق الدولية بهذين الحقين، وتكفلها لهما بالحماية في السلم والحرب، بينما يرى الاتجاه الرافض للتدخل الإنساني ضرورة الموازنة بين حق التدخل الإنساني وبين عدد من المبادئ الأساسية المقررة في القانون الدولي الذي يحظر اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية، وبين عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بالإضافة إلى مبدأ التسوية السلمية للمنازعات، واحترام وحدة أراضي الدولة واستقلالها السياسي.

لا بد أن يَشار أيضا إلى أن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وُضع بغية الحفاظ على استقلالية الدول الضعيفة ضد تدخلات وضغوط الدول الأقوى. وهو المفهوم الذي بنيت عليه العلاقات الدولية وتنظيم العلاقات بين الدول، كما أنه ليس لمبدأ عدم التدخل علاقة بنشاطات الإغاثة التي تنفذها منظمات إنسانية يَتَوَخَّى فيي عملها الحياد والإنسانية، وبالتالي فإن الحق في التدخل تحت ذريعة حقوق الإنسان يعد سلوكاً خارجاً عن المألوف هدفه المعلن شعارات إنسانية وأمنية وبيئية تغلف جميعها آليات إدارة الصراع الدولي التي تشكل حقيقة الهدف من وراء التدخل، وهو تحقيق مصالح سياسية واقتصادية وعسكري للقوى الكبرى.

أمريكا والغرب واستغلال مجلس الأمن لانتقاص سيادة الدول

رغم أن مواثيق الأمم المتحدة تقر بمبدأ سيادة الدول، إلا أن ميثاق الأمم المتحدة استثنى بعض أشكال التدخل مثل التدخل الذي يُنفذ بقرار من مجلس الأمن وفقا للمادة 42 من الفصل 7 من الميثاق (تدخل قسري دون موافقة الدولة المعنية)، كذلك في حالة الدفاع الذاتي على غرار ما نصت عليه المـادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن تلك السيادة تأثرت سلبا بمفاهيم الليبرالية التي عمدت إلى استغلال نفوذها العسكري والاقتصادي والسياسي في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن خاصة، فاستغلت بعض القوى الكبرى مبدأ حماية حقوق الإنسان والأقليات ذريعة للتدخل في الدول الأخرى على غرار التدخل الروسي في أبخازيا، التدخل الروسي الأمريكي في سوريا، التدخل الصربي الكرواتي في كوسوفو، التدخل الأمريكي في الصومال والعراق وكوسـوفو والتدخل البريطاني في سيراليون.

وتمشيا مع مصالحها القومية، استأثرت الدول الكبرى الخمس بما عرف بحق النقض لتهيمن على قرارات مجلس الأمن، وتنتقص من سيادة الدول؛ وبالتالي الـتأثير في المجريات السياسية للدول النامية، ورأينا كيف أن الكثير من قرارات الأمم المتحدة تأثرت بحق النقض فيما يتعلق ببعض قضايا الدول مثل العراق، سوريا، لبنان، فلسطين وغزة بصفة خاصة والسودان وبعض دول أفريقيا حيث تخضع القرارات الصادرة من مجلس الأمن حيال قضايا الدول النامية بصفة عامة لمساومات وتنازلات بين الدول الخمس دائمة العضوية (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الصين وروسيا) وذلك وفقا لمصالح الدول المذكورة. ومن الآليات التي تستخدمها القوى الكبرى أيضا للتأثير في قرارات مجلس الأمن ما يعرف بمفهوم حامل القلم (بدأت المناقشات والحوارات وجهات النظر المتعلقة به في سنة 2004 قبل أن يتبلور مفهومه القانوني، وتستقر أحكامه لدى هيئة الأمم المتحدة والعاملين فيها سنة 2018م، تسيطر علي استخدامه ثلاث دول: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا وفرنسا)، كذلك اتخذت القوى الكبرى منظمات الغوث الإنساني الدولية والإقليمية مطية لتحقيق مصالحها الوطنية من منظور براغماتي (بحث الدول عن مصلحتها أينما وجدت بغض النظر عن التفكير الأخلاقي إذا تعارض مع تحقيق هذا الهدف)، وذلك لأن هذه الدول هي الداعم المالي الرئيسي للاستجابة الإنسانية التي تضطلع بها هذه المنظمات؛ مما يجعل هذه المنظمات عرضة لضغوط الدول المانحة إذا ما تعارض عمل هذه المنظمات مع أهداف هذه الدول المانحة.

معايير سيادة الدول والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين

من خلال ما سبق ذكره يمكن القول بأن حق الدول في عدم التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل مباشر أو غير مباشر، وفي ظل المتغيرات الجديدة في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة لم يعد ذلك الحق المقدس في سيادة مطلقة على المستويين الداخلي والخارجي للدول، بل إن حق ممارسة السيادة على هذين المستويين أصبح وفقا لما عُرف بمبدأ المسؤولية الدولية، ومدى إسهام هذه الدول في تحقيق الأمن والسلم الدوليين وفقا لما تراه الدول الكبرى في مجلس الأمن والأمم المتحدة، والذين بني نظامهما على تحفيز المنتصر في الحرب العالمية الثانية، وليس وضعاً يكسب فيه الجميع (win-win situation)، وَاِتَّخَذَ مبدأ التدخل الإنساني ذريعة للمساس بسيادة الدول، فانحرف هذا التدخل عن البعد الإنساني، وسيطرت عليه الدول الكبرى، ولذا أصبح القانون الدولي المعاصر لا يفضل فكرة التدخل الدولي الإنساني؛ لأنها تعد في الواقع محاولة لخلق الاتجاه الاستعماري القديم الذي يبيح التدخل الدولي لعوامل إنسانية بحسب الظاهر، ولكن الهدف الحقيقي منه هو فرض السيطرة الاستعمارية على الدول النامية خاصة دول أفريقيا التي لم يسمح لها بالاستفادة من مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، كما أن حق التدخل لا يأخذ في الحسبان شكل التحولات الجذرية التي عرفها القانون الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخاصة تصفية الاستعمار وانتهاء العمل بتقسيم الدول الغربية لمناطق النفوذ الذي تجدد بعد الحرب الباردة بآليات جديدة مثل ما عرف بالتدخل الدولي الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى