رأي

رحيل إبراهيم رئيسي ومسيرة إيران المستقبلية

د. حسن عيسى الطالب

يتعين إزجاء التعزية المستحقة للشعب الإيراني الشقيق وحكومة الجمهورية الإسلامية في وفاة الدكتور إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية حسين عبد اللهيان، إثر سقوط طائرة كانت تقلهما في مهمة رسمية، الأحد 19 مايو الجاري، على منطقة حدودية بالقرب من أذربيجان، والله تعالى نسأل أن يرزقهما ورفاقهما أجر الشهداء العاملين.

يحمل الرئيس الراحل، الذي انتخب عام 2021م بنسبة تفوق 60%، درجة الدكتوراة في الحقوق الخاصة والعلاقات الدولية، ويعتبر من المخططين الاستراتيجيين لسياسة إيران الخارجية، التي تستند على تعظيم التعاون المشترك في الجوار الإقليمي، والفضاء الإسلامي، ومناهضة الاستعمار والاحتلال الأجنبي بكل أشكاله، ودعم النضال الوطني للشعوب المحتلة، والتوالي معها للتحرر، استنادا على قوله تعالى في محكم التنزيل: “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا” الآية ٧٥ – سورة النساء.

إبان تولي د. إبراهيم رئيسي الرئاسة، خلال السنوات الثلاث الماضية، جرى التطبيع السياسي واستعادة العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول العربية والإسلامية، وخاصة المملكة العربية السعودية ومصر وأذربيجان.
وتعتبر إيران الإسلامية من أقوى داعمي النضال لتحرير فلسطين من الاحتلال، وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تخفي دعمها العسكري للمقاومة الفلسطينية، بكافة تشكيلاتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، وظل للرئيس الراحل صوت صارخ ضد حرب الإبادة الجارية في غزة.
ترتبط إيران بعلاقات استراتيجية مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا والهند وجنوب أفريقيا وكافة دول المعسكر غير الرأسمالي.

ويتوقع أن تستمر السياسة الخارجية الإيرانية في ذات السياق المرسوم الجاري الذي يتماشى مع التوجهات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية. وظلت الانتخابات تجري في إيران بصورة راتبة منذ الثمانينيات، وتتنافس عليها نحو تسعة أحزاب ومنظومات سياسية معتمدة وفق القانون. وتعتبر إيران من الدول الإسلامية القليلة، مع كل من إندونيسيا وتركيا وماليزيا والمالديف وبنغلاديش، التي تعتمد علوية المؤسسات الدستورية الراسخة في إدارة الدولة، وتراتبية إجراء الانتخابات الدورية، وممارسة التداول السلمي للسلطة، والحصانة ضد الانقلابات العسكرية، والتأمين من المؤامرات الخارجية.

وتقوم سلطة المرشد في النظام الإيراني بمقام منصب السيادة العليا، مثله مثل دور الملك في الأنظمة الدستورية، كبريطانيا وإسبانيا. ويعتمد المرشد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، ويشرف على أجهزة عليا ذات مهام توجيهية ورقابية شاملة. ووفق النظام الإيراني فإن على المرشد ممارسة الرقابة العليا على حماية الدستور وإنفاذه، والتزام مبادئ الشريعة الإسلامية وعدم السماح بتجاوزها مهما كانت التحديات، وتحديد الوجهة الاستراتيجية للدولة وفق نظرية ولاية الفقيه. ومن ذلك التأكيد على إجراء الانتخابات الرئاسية في مواعيدها ووفق الدستور. ويأتي إبراهيم رئيسي في الترتيب التسلسلي ثامن الرؤساء المنتخبين في الجمهورية الإسلامية في إيران منذ العام 1979م. وقد خاض الانتخابات كمرشح لحزب الجبهة الإسلامية لقوى الثورة الإسلامية عام 2021م.
وفق الدستور ر الإيراني تجرى الانتخابات عند وفاة الرئيس خلال فترة لا تتجاوز خمسين يوما، ويقوم خلالها نائبه بإدارة الحكومة، وهذا ما تم إعلانه رسميا.
تعتبر إيران من الدول ذات المساحات الكبرى في الشرق الأوسط، إذ تبلغ مساحتها نحو 1.6 مليون كيلومتر مربعا، وعدد سكانها حوالي 88 مليون، 99% منهم مسلمون.

ويبلغ الناتج الإجمالي المحلي GDP حوالي 1400 مليار دولار أمريكي، ويبلغ متوسط دخل الفرد السنوي 16000 (ستة عشر ألف دولار أمريكي) تقريبا. وتعتبر إيران من الدول الصاعدة تنمويا وتقنيا، وفي مجال الصناعات التقنية والالكترونيات والذكاء الاصطناعي AI وتقانة الطائرات المسيرة، والطاقة النووية، والصناعات العسكرية، والأسلحة البالستية، والبتركيماويات والمعادن. ويتطور الاقتصاد بنسبة نمو سنوية تبلغ 3,6 وتنتج إيران حوالي 4 مليون برميل من النفط يوميا، وهي عضو مؤسس لمنظمة الأوبك، وعضو في منظمة بريكس BRICS مع كل من البرازيل والهند وروسيا والصين.
ومنذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وزوال نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان حليفا استراتيجيا قويا لأمريكا في الشرق الأوسط، وداعما محوريا لإسرائيل، ساءت العلاقات الإيرانية مع أمريكا، إثر الثورة الشعبية الشاملة التي جاءت بالنظام الإسلامي بقيادة الزعيم آية الله روح الله الخميني، فناصبته أمريكا العداء السافر منذ اليوم الأول، وذلك في سياق متصل لممارسة الهيمنة الجيوسياسية. ويرجع تاريخها إلى أيام الانقلاب العسكري الذي دبرته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA ضد رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق عام 1953م عندما طالب بتعديل حصة إيران النفطية البالغة 18% لتصبح 50% بينما تحوز شركة النفط الإنجليزية الفارسية BP والشركات الأمريكية نسبة 82% من الإيرادات. فتم تدبير انقلاب ضد حكومة مصدق المنتخبة، ثم نصب الشاه بهلوي ليحكم الشعب الإيراني، كدكتاتور وعميل وغير منتخب، بعد الانقلاب الذي مولته بريطانيا ووكالة المخابرات الأمريكية CIA عبر الجنرال زاهدي عميلها في الجيش الإيراني.
إثر قيام الثورة الإسلامية عام 1979م استشاطت أمريكا غضبا من التغييرات التي فاجأتها، فأقدمت على عدة محاولات استخباراتية لإرجاع نظام الشاه العميل للحكم، ولو بالقوة العسكرية. وقد تم ذلك بالفعل عبر حملة عسكرية سرية في أبريل 1980 تحت ذريعة تحرير الرهائن الأمريكيين، ولكنها فشلت، واسقطت الطائرات المهاجمة في صحارى إيران وقتل من فيها. ومنذ ذلك الوقت أصبحت إيران العدو الألد لأمريكا في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بمناهضة سياستها الجيوستراتيجية، الرامية لمنع أية أنظمة تعتمد الشريعة الإسلامية من الوصول للحكم، ويطلق تشهيرا مصطلح الإسلام السياسي political Islam ووصف “الإرهاب الإسلامي” على كل حزب سياسي يسعى للتغيير في الدول الإسلامية، تمييزا واستبعادا وانحيازا لنوع الإسلام الذي ترتضيه أمريكا للدول الإسلامية.
وقد تبنت سياسة أمريكا الخارجية هذا النهج الاستراتيجي منذ سقوط المنظومة الشيوعية، وانهيار الإتحاد السوفيتي عام 1991 وذلك من جراء التخوف من قيام أنظمة إسلامية تنافسها السيادة العالمية والقطبية الأحادية، وتكون على نمط الخلافة والسلطنة العثمانية، والتي أسقطتها الدول الغربية بالتآمر الجمعي، وخاصة بريطانيا وفرنسا، إبان الحرب العالمية الأولي (1914 – 1918م) فانتهت رسمياً هام 1924، بعد انقلاب كمال أتاتورك، الذي لقي الدعم اللامحدود من الدول الغربية، فألغى الخلافة بقرار سلطوي، ونفى آخر سلاطين آل عثمان لسويسرا، وأنهى الحكم بالشريعة والدستور الإسلامي في تركيا الى اليوم.

من ناحية أخرى، فإن إعلان الانتخابات الإيرانية القادمة لاختيار الرئيس التالي، خلال الشهرين القادمين، يتوقع أن يؤكد على استمرار السياسة الخارجية لإيران على ذات النهج المعتمد خلال العقود الأربعة الماضية، وخاصة بشأن تواصل جهود المصالحة الدبلوماسية مع دول الجوار، وإنهاء الخلافات الإقليمية في كل من اليمن والبحرين، مع إمكانية التوسط بين الفرقاء اليمنيين ودول الجوار، والاستمرار في دعم المقاومة في فلسطين، استنادا على مقررات الأمم المتحدة، والقانون الدولي، وأجواء الوفاق العام الداعم للفلسطينيين في أوساط الدول العربية والإسلامية ودول الجنوب العالمي Global South التي أيدت 143 منها مشروع القرار الذي أقرته الجمعية العامة في الأسبوع الماضي، بشأن انضمام دولة فلسطين للأمم المتحدة، مقابل رفض 3 دول فقط.

ولعل نتائج الانتخابات الإيرانية المرتقبة، والتزام المؤسسية والدستور، والتحول الراهن في مجرى الحرب في غزة، والإنحياز الإيجابي في الرأي العام الدولي لمناصرة الفلسطينيين ضد الاحتلال، وإدانة الإبادة، بما في ذلك من عدد من الدول الغربية التي تؤيد حل الدولتين، والإدانات المتوقعة لإسرائيل في محكمة العدل الدولية، وإمكانية تقديم بعض قادتها وإدانتهم بجرائم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، يجعل لإيران صوتا صادعا في المجتمع الدولي، يتيح لها مساحات دبلوماسية وافرة للتغلب على تحديات الاحتواء والحصار السياسي الأمريكي والأوربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى