طوق الحمامة

عبد القادر دقاش
يقول ابن حزم في “طوق الحمامة” في باب من أحب في النوم: (دخلت يوماُ على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا، مولى المؤيد، فوجدته مفكراً مهتماً، فسألته عما به، فتمنع ساعة ثم قال: لي أعجوبة، ما سُمعت قط. قلت: وما ذاك..؟ قال: رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها، وهِمت بها. وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أياماً كثيرة تزيد على الشهر مغموماً مهموماُ لا يهنئه شيء وجداُ، إلى أن عذلته وقلت له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي…؟ قال: لا والله. قلت: إنك لقليل الرأي، مصاب البصيرة، إذ تحب من لم تره قط. ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمام، لكنت عندي أعذر. فما زلت به حتى سلا وما كاد).
كانت بذرة عمار بن زياد بذرة إبداعية لكن ابن حزم لم يسقها ولم ينمها له، ومع ذلك كتب ابن حزم أروع كتاباته عن الحب، فطوق الحمامة.. كتاب عن الحب والجمال والألفة والألاف.
لكن هل كان الفقيه الأندلسي عاشقا”؟ من يقرأ طوق الحمامة لا يسعه إلا أن يقول إن الفقيه الأندلسي كان محباً عاشقاً، لين القلب، ومرهف النفس.. ومتوقد العقل والقريحة.. والبيئة الأندلسية بيئة يجبى إليها الجمال من كل شيء.. فهي البيئة التي عاش فيها ابن زيدون..وابن مضاء .. وابن عربي.. فكل فقيه أو شاعر أو نحوي أو عاشق عاش في هذه البيئة لا يشبه من عاش في بيئات العرب والمسلمين الآخرى، فكل بيئة تطبع إنسانها بطابعها.. (والفقهاء أيضاً يعشقون) ويستدعون الطيف، ونقرأ من شعر حسان بن ثابت: (جنية أرقني طيفها..تذهب صبحاً وتُرى في المنام). وروى الأصفهاني أن إبراهيم الموصلي دخل على الرشيد، وبين يديه جارية كأنها غصن بان، فقال لها الرشيد: غني فغنت: (توهمه قلبي فأصبح خده.. وفيه مكان الوهم من نظري أثر ** ومر بوهمي خاطراً فجرحته.. ولم أر جسماً قط يجرحه الفكر). ومع ذلك لم يجرؤ ابن حزم مثل فقيه أندلسي آخر هو ابن عربي ليروى لنا قصة عشقه..فقد كتب الفقيه الأكبر والكبريت الأحمر (ترجمان الأشواق) عن (نظام الملك) المرأة التي قدت من رحيق الأزهار. ابنة المحدث أبي شجاع زاهر بن رستم الأصفهاني، الذي عاش في مكة، عندما نزلها ابن عربي، وكتب فيها فتوحاته التي ما تزال شغل الناس.. فابن عربي الذي يفرق بين القلب والعقل، ولا يرى رأي الفقهاء والمفسرين الذين يفسرون القلب بالعقل، ويقول: (من فسر القلب بالعقل فلا معرفة له بالحقائق)، ويرى أن الركون إلى الفقهاء يعطل العقل والركون إلى الفلاسفة يعطل القلب..لكن الركون إلى الأولياء يجعل القلب والعقل تحت نور الله المبين..
وفتوحات ابن عربي درس للعقل والقلب ومنارة للبصر والبصيرة وشغل للجسد والروح.
طاف (ترجمان الأشواق) شعاب مكة.. وأصبحت نظام على كل لسان..(نظام.. ولدت وعاشت في قلب محي الدين بن عربي. ولا تموت فيه قط ..عذراء هيفاء تقيد النواظر وتزين المحاضر عالمة عابدة سائحة ساحرة الطرف. إن اسهبت أتعبت وإن اوجزت أعجزت وإن افصحت أوضحت)..يقول ابن عربي: استخرت الله أن يجمعني بنظام إن كان في اجتماعنا خير. أما إن كان فيه شر فليجمعنا أيضاً بعد أن يصرف هذا الشر.
لم يجتمع ابن عربي ب(نظام الملك) ..لأنه ليس كل من أحب محبوباً نال وصاله.. فكتب (الفقيه الأكبر) كتاباً يشرح فيه (ترجمان الأشواق)..أسماه (ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق) الذي رأى فيه الناس حباً عذرياً .. ورآه آخرون كشفاً لسر ما كان ينبغي أن يكشف (والحب سر إلهي) كما يرى ابن عربي نفسه.. لكنه يرى أيضاً.. إن افتضاح الحب وكشفه هو خضوع للروح وطمأنينة للجوارح.. ولكن هل يجد (الطمأنينة) من أحب؟.. وهل يرتق الحب القلوب أم يثقبها؟..ويكون الثقب بحجم الحب! (إن قلبي مثقوب ثقباً واسعاً بحجم حبي).
إقرأ لتحيا..